في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
مع انحسار الدور الأميركي في مجالات القوة الناعمة منذ بدء الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب ، وجّه العديد من المراقبين أنظارهم صوب الصين التي تُقدَّم اليوم بوصفها المستفيد الأكبر من هذا الفراغ المتسع في النظام الدولي .
فقد تفككت مؤسسات أميركية كانت لسنوات طويلة تشكل أعمدة النفوذ العالمي لواشنطن، بينما بدت بكين أكثر حضورا وقدرة على الوصول إلى دول الجنوب العالمي، بفضل عروضها الاقتصادية وتوسّعها الثقافي والتكنولوجي.
الصين والولايات المتحدة تقدمان نماذج من النفوذ مختلفة لكنها متكاملة في الغالب
ورغم هذا التحول الملحوظ في توازنات الجاذبية الدولية، تجادل ماريا ريبنيكوفا أستاذة الاتصالات العالمية بجامعة جورجيا ستيت بأن الصين لا تتصرف كقوة صاعدة تسعى لوراثة الدور الأميركي، بل كقوة حذرة تقيس خطواتها بدقة، وتتجنب التورط في التزامات واسعة أو في تقديم نموذج أيديولوجي بديل.
وفي هذا السياق، تبدو بكين مستفيدة من تراجع واشنطن لكنها ليست بالضرورة مستعدة لقيادة العالم أو صياغة رؤية جديدة للنظام الدولي، كما تعتقد ريبنيكوفا في مقالها بمجلة "فورين أفيرز" الأميركية.
وتستهل الكاتبة مقالها بالإشارة إلى التحول الجذري في انخراط الولايات المتحدة الخارجي منذ بداية الولاية الثانية لترامب. فقد تقلّصت أو تلاشت مؤسسات أميركية كانت تشكل ركائز القوة الناعمة، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ، وبرامج الدبلوماسية العامة في وزارة الخارجية.
كما أن القيود المشددة على الهجرة تأخذ من جاذبية الولايات المتحدة وانفتاحها التقليدي، خاصة وأن الصين بالمقابل تسمح لمواطني أكثر من 70 دولة بالدخول من دون تأشيرة لمدة 30 يوما.
الصين تجذب الدول الأخرى إليها عبر تقديم "منافع عملية" في مجالات التجارة والبنية التحتية والقروض وبرامج التدريب
وإلى جانب ذلك، تسببت الدبلوماسية الأميركية ذات الطابع "القسري" القائم على الإقناع بالقوة والمعاملات التجارية البحتة، في نفور حلفائها بشكل متزايد.
ووفق المقال، فقد وصف بعض المراقبين -مثل المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- تلك السياسات بأنها "انتحار القوة الناعمة" بينما حذر جوزيف ناي الذي صاغ مصطلح القوة الناعمة من أن الصين تقف على أهبة الاستعداد لملء هذا الفراغ.
لكن ريبنيكوفا ترفض فكرة أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة في مجال القوة الناعمة يقوم على معادلة صفرية. فالصين والولايات المتحدة -كما تقول- تقدمان نماذج من النفوذ مختلفة لكنها متكاملة في الغالب.
وتميل الصين -وفق المقال- إلى جذب دول أخرى إليها عبر تقديم "منافع عملية" في مجالات التجارة والبنية التحتية والقروض وبرامج التدريب.
وعلى النقيض من ذلك، ظلت الولايات المتحدة تضع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والمثل الليبرالية في صُلب جهودها للتواصل مع العالم، وهو ما دفع -برأيها- دولا كثيرة، خصوصا في الجنوب العالمي، إلى قبول عروض الطرفين في آن واحد.
وبينما أدى خفض الولايات المتحدة مساعداتها التنموية للدول إلى جعل التزامات الصين تبدو الأكبر عالميا، ترى ريبنيكوفا أن بكين لا توسّع هذه الالتزامات لملء الفراغ الأميركي.
"لسنا هنا لتقديم النصائح"
بواسطة محاضر صيني في رد على سؤال مسؤول أثيوبي
حول تجربة الصين في مكافحة الفقر
بل على العكس، لفتت الكاتبة إلى أن الصين تخفّض من حجم تعهداتها المالية. فتعهدها الأخير بتقديم 9.2 مليارات دولار لدول أميركا اللاتينية والكاريبي عام 2025 يقلّ بنسبة 50% عن تعهدها عام 2015.
كما هبطت قروضها في منظمة شنغهاي للتعاون من 5 مليارات دولار عام 2014 إلى 1.4 مليار فقط عام 2025.
ولا تسعى الصين إلى أن تحل محل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في المجال الإنساني أو دعم الحكم الرشيد. فميزانية مساعداتها الخارجية ما زالت متواضعة وتعتمد على القروض الميسرة، ولم تشهد زيادة كبيرة منذ تقلص الدور الأميركي.
وحتى في المجالات التي تتوسع فيها، مثل الاستثمار في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، فإن الشركات الخاصة، وليس الدولة، هي المحرك الرئيسي، بحسب المقال.
أما على المستوى الأيديولوجي، فلا توجد -بحسب ريبنيكوفا- مؤشرات على أن الصين تتطلع لتقديم نموذج حكم بديل ينافس النموذج الأميركي الذي تراجع حضوره في الخارج.
فرسالة الرئيس الصيني شي جين بينغ تدعو أساسا إلى "نظام عالمي أكثر عدلا" وتركز على التمايز عن الغرب ورفض الهيمنة الغربية، لا على عرض رؤية عالمية واضحة أو "نموذج صيني" جاهز للتصدير، بحسب الكاتبة.
ووجدت الكاتبة -عبر أبحاثها في برامج التدريب التي تقدمها الصين للمسؤولين الأفارقة- أن المحاضرين الصينيون يشيدون بنجاحات بكين ويصفون نظامها بأنه "نسخة أكثر كفاءة من الديمقراطية" لكنهم قلّما يقدمون إرشادات حول كيفية محاكاة التجربة الصينية.
وضربت مثالا على ذلك بما جرى بإحدى الندوات في أديس أبابا، عندما طلب مسؤول إثيوبي نصائح لتطبيق تجربة الصين في مكافحة الفقر، فجاء الرد الصيني "لسنا هنا لتقديم النصائح" مما أنهى النقاش.
وتُقِر كاتبة المقال أن الصين تشهد ازدهارا ثقافيا وتكنولوجيا يعزز بعض عناصر قوتها الناعمة، من دمى "لابوبو" إلى فيلم الرسوم المتحركة "نا تشا 2" وصولا إلى منصات الذكاء الاصطناعي مثل "ديب سيك".
وقد دفعت هذه المنتجات بعض المراقبين إلى القول إن "الصين أصبحت جذابة". ومع أن هذه الظواهر تعزز الودّ تجاه بكين، فإنها لا تقدم رؤية سياسية أو عالمية متكاملة، كما تزعم الكاتبة.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الصين حققت مكاسب ملموسة، لكنها غير متجانسة. فالصورة السلبية للصين راسخة في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، حيث تفوق المخاوف الأمنية الإغراءات الاقتصادية.
وفي استطلاع أجراه مركز بيو الأميركي للدراسات، عبّر 66% من المشاركين في 25 دولة عن عدم ثقتهم بقدرة الرئيس الصيني على "اتخاذ القرارات الصائبة في الشؤون العالمية".
وحتى المسؤولون في أفريقيا ، رغم تقديرهم للقروض الصينية، يتساءلون دائما ما إذا كان ما تقدمه بكين مكسبا للطرفين أم للصين فقط؟
وتصف ريبنيكوفا مكاسب الصين الحالية بأنها "نسبية" وبعيدة عن أن تكون "مفصلية" مشيرة إلى أن بكين تستفيد من التراجع الأميركي بشكل سلبي، لكنها تتجنب التوسع المفرط أو الانخراط في سياسات أيديولوجية خارج حدودها.
وبدلاً من أن تحلّ محل واشنطن، تبدو الصين قانعة بتكريس مسارها الخاص، والاستفادة من إبراز التباينات بينها وبين الولايات المتحدة، والحفاظ على قدر كبير من المرونة في دبلوماسيتها، برأي الكاتبة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة