في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في خضم الحرب المستعرة على قطاع غزة تبرز للواجهة ظاهرة تنفيذ جنود الاحتلال عمليات قتل وتدمير بدوافع دينية تصل بهم إلى جرائم الإبادة والتطهير العرقي والديني.
وينتسب منفذو هذه الجرائم في العادة إلى المعاهد الدينية اليهودية العسكرية التي أُسست في 1953 ويطلق عليها "يشيفوت هسدير"، إضافة إلى منتسبي المعاهد ما قبل الخدمة العسكرية التي أُسست عام 1988 بمستوطنة في الضفة الغربية ، ويطلق عليها "الميخنا".
لم تعد هذه المؤسسات مجرد معاهد مرتبطة بما يسبق أو خلال الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، بل تحولت إلى حواضن رئيسية للأيديولوجيا الدينية القومية المتطرفة التي تؤطر العنف ضد الفلسطينيين وتبرره تحت ستار توراتي يتمثل بـ"الوعد الإلهي" و"الدفاع عن أرض إسرائيل ".
لم تظهر معاهد "الميخنا" المتطرفة من فراغ، بل كانت نتاجا طبيعيا لصعود التيار الديني القومي المتمثل بالصهيونية الدينية، وكان أول هذه المعاهد "عين برات" في مستوطنة كفار أدوميم و"بني دافيد" في مستوطنة إيلي.
تأسيس هذه المعاهد انطلق من دافعين:
لكن، قبل ظهور معاهد "الميخنا" استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي مسارات مختلفة لتحفيز المتدينين للالتحاق بالخدمة العسكرية، ومنها المدارس الدينية النظامية "يشيفوت هسدير" التي تجمع بين دراسة التوراة والخدمة العسكرية.
وقد نشأت فكرة هذه المدارس في عام 1953 على يد الحاخام يهودا عاميتال أول يشيفا في مستوطنة كريات غات، لكن الانتشار الواسع بدأ بعد حرب 1967 عندما ازداد نفوذ التيار الديني القومي الذي رأى في الجمع بين التوراة والسلاح تعبيرا عن العقيدة الصهيونية الدينية الجديدة.
وتقوم هذه العقيدة على أن الخدمة في الجيش واجب ديني ووطني معا، ويقوم الحاخامات بتلقين الطلبة رؤية توراتية تعتبر الحرب ضد الفلسطينيين حربا دينية.
وتقدم معاهد "يشيفوت هسدير" خدمة عسكرية مختصرة ودراسة توراتية معمقة ببرنامج يمتد لـ5 سنوات، أما "الميخنا" فتقتصر الدراسة فيها على عام واحد من الإعداد الذهني والبدني المكثف قبل الالتحاق بالجيش.
تؤدي المؤسستان دورا تكامليا في إنتاج كوادر عسكرية متدينة ذات التزام أيديولوجي حاد، إذ يجمع خريجو هذه الأطر بين الحافز الديني والرغبة في القيادة الميدانية.
وتُعد هاتان المؤسستان اليوم من أهم أدوات تعبئة الجيل الديني القومي في إسرائيل، وتسهمان بشكل مباشر في تشكيل قيادات الجيش الإسرائيلي والمستويات العليا في وحدات النخبة، فضلا عن رفد المستوطنات بكوادر عقائدية مهيأة عسكريا وأيديولوجيا.
وتعلن هذه المؤسسات أن أهدافها هي:
لكن في التطبيق العملي تُغرس فيها فكرة أن "السيطرة على أرض إسرائيل الكاملة" واجب ديني، وأن الفلسطينيين "تهديد وجودي"، وهي مضامين تتكرر في المناهج والخطب الدينية داخل تلك المعاهد.
ويقدّر أن نحو 50% من ضباط وحدات المشاة القتالية في الجيش الإسرائيلي هم خريجو يشيفوت هسدير أو معاهد تحضيرية دينية.
ويرى المختص في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع أن هذه المعاهد نجحت في دورها بإعادة تشكيل التيار الديني القومي في إسرائيل ونقله من موقع التهميش والانكفاء إلى موقع التأثير والفاعلية.
ويضيف مناع في حديثه للجزيرة نت أن هذه المعاهد أسهمت في رفد جيش الاحتلال بكوادر قتالية عالية الدافعية ومؤهلة للقيادة، كما ساعدت على إعادة تعريف جملة من المفاهيم داخل التيار الديني القومي وتعزيز مكانته في المجتمع الإسرائيلي، وقد أصبحت إحدى الأدوات المركزية في إعادة صياغة المشروع الصهيوني وتطويره.
تُظهر الإحصاءات أن مستوطنات الضفة الغربية أصبحت المركز الرئيسي لحواضن التعبئة الأيديولوجية في التيار الديني القومي الإسرائيلي.
وبحسب بيانات رسمية، يوجد في إسرائيل قرابة 62 معهد ميخنا معترفا بها من قبل وزارة الاستيطان ووزارة الجيش، من ضمنها 27 معهدا تعمل داخل مستوطنات الضفة الغربية.
ويُظهر التوزيع أن 65% من الطلاب يدرسون في المعاهد العلمانية والعامة، في حين أن 35% فقط يدرسون في المعاهد الدينية التوراتية، وإلى جانب ذلك توجد معاهد مخصصة لاستيعاب الشباب اليهود القادمين من مختلف أنحاء العالم.
وفي موازاة ذلك، ينشط نحو 70 معهدا من "يشيفوت هسدير" التي تدمج الدراسة التوراتية في الخدمة العسكرية، منها قرابة 20 معهدا داخل مستوطنات الضفة الغربية.
ويتخرج سنويا من معاهد الميخنا نحو 1400 طالب، في حين تخرّج معاهد يشيفوت هسدير نحو 1700 طالب.
وتشير معطيات الجيش الإسرائيلي إلى أن أكثر من 90% من خريجي المعاهد التحضيرية "الميخنا" ينضمون إلى الخدمة القتالية، في حين تبلغ النسبة بين خريجي "يشيفوت هسدير" نحو 80%، وغالبا ضمن وحدات المشاة والمدرعات والاستخبارات التقنية.
ويمتاز خريجو المعاهد المقامة في الضفة الغربية بمعدلات مرتفعة في الالتحاق بوحدات النخبة والمسارات القيادية المبكرة، إذ تفيد تقارير عسكرية بأن نحو 40% منهم يلتحقون بوحدات النخبة مثل "غولاني" وجفعاتي وسيرت همتكال.
ويكشف تقارير إسرائيلية عمق حضور هذه المعاهد في المؤسسة العسكرية، إذ بلغ عدد قتلى خريجيها 119 قتيلا خلال السنة الأولى من حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي نحو 15% من إجمالي قتلى الجيش الإسرائيلي.
في المقابل، شهدت هذه المعاهد ارتفاعا ملحوظا في معدلات الالتحاق، حيث ارتفع الإقبال العام بنسبة تقارب 22% بعد عامين من التراجع شبه الكامل بفعل تداعيات الحرب على غزة واعتبارات الجيش، إضافة إلى زيادة بنسبة 31% في أعداد الطلاب الأجانب الملتحقين بها.
تُدرّس في هذه الأكاديميات مواد في التوراة والتلمود والتاريخ التوراتي إلى جانب تدريبات عسكرية ميدانية، ورحلات مسح جغرافي في مناطق فلسطينية مجاورة يصفها الطلاب بأنها "تطبيق عملي لفهم الوعد الإلهي للأرض".
ويُعد معهد "بني دافيد" في مستوطنة عيلي شمال الضفة الغربية أول معهد تحضيري ديني صهيوني ما قبل العسكرية في إسرائيل، وأُسس هذا المعهد عام 1988 على يد الحاخامين إلي سدان ويغال لفينشتاين.
وقد تحوّل منذ ذلك الحين إلى مؤسسة محورية في إعادة تشكيل مسار اندماج التيار الديني الوطني داخل الجيش الإسرائيلي.
وبحسب موقع المعهد، يتمحور الهدف المركزي للمعهد حول إعداد شباب متدينين يجمعون بين المعرفة التوراتية العميقة والانضباط والتأهيل البدني والنفسي، بغية الالتحاق بالوحدات القتالية ووحدات النخبة، مع التركيز على المسارات القيادية طويلة المدى داخل الجيش.
وينطلق المعهد من رؤية تعتبر دولة إسرائيل بداية الخلاص للشعب اليهودي، وترى أن الخدمة العسكرية ومؤسسات الدولة تمثل واجبا دينيا وقوميا.
وعلى مدار أكثر من 3 عقود تخرّج من المعهد آلاف الخريجين، حيث يخدم أكثر من 90% منهم في وحدات قتالية، ويصل نحو 40% إلى رتب الضباط الجيش الإسرائيلي، في حين يواصل كثيرون مسيرة مهنية طويلة في الجيش الدائم أو في مواقع مدنية قيادية.
وانعكس هذا على الأرض بمزيد من العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث تشير بيانات منظمة بتسيلم الحقوقية إلى تصاعد ملحوظ في حوادث العنف الاستيطاني ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة.
وتكشف الهجمات الإرهابية ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية نمطا خطيرا في انتقال الفكر المتطرف من حواضن الإرهاب والتطرف العسكرية إلى تنفيذ واقعي على الأرض عبر توظيف المعرفة العسكرية والانضباط التنظيمي في أعمال انتقامية ضد المدنيين الفلسطينيين.
وقد وثقت مصادر حقوقية عدة -بما فيها منظمة " كسر الصمت " الإسرائيلية- حالات يظهر فيها الجنود وهم ينفذون هجمات على ممتلكات فلسطينية تحت شعارات دينية أو قومية، أو يتباهون بنشر محتوى يوحي بالولاء الأيديولوجي على حساب الالتزام بالقوانين العسكرية.
واعتبر المختص في الشأن الإسرائيلي الدكتور عمر جعارة في حديثه للجزيرة نت أن المنبع الوحيد للتطرف اليهودي هو أسفار العهد القديم "التناخ"، والذي يكشف السلوك الحقيقي للتنظيمات الدينية اليهودية المتطرفة التي تلتزم حرفيا بما ورد فيها، من قتل الأطفال وهدم المدن وحرقها.
وكشفت حرب الإبادة على غزة عن الثمرة المُرة للأيديولوجيا التي غُرست منذ عقود داخل معاهد التحضير العسكرية و"يشيفوت هسدير"، فالأفكار التي نشأت داخل جدران هذه الأكاديميات الدينية القومية في مستوطنات الضفة الغربية لم تبق في إطار التنشئة الفكرية أو التربية العقائدية، بل تحولت إلى سلوك عملي وميداني داخل وحدات الجيش الإسرائيلي.
ويربط جزء من المتدينين بين العقيدة المسيحانية والحرب الجارية في غزة، حيث يعتقدون أن الكارثة الحالية عقاب إلهي على فصل الدين عن الدولة، كما صرّح يغال لفينشتاين مؤسس معهد بني ديفيد بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 "إن الحرب ليست مأساة إنسانية، بل فرصة روحية لإعادة الشعب إلى التوراة، وتطهير المجال العام من الخيانة العلمانية".
وكشفت صحيفة هآرتس في 22 يناير/كانون الثاني 2024 أن الجيش الإسرائيلي استعان خلال الأشهر الأولى من الحرب بخريجي هذه المعاهد لدعم وحدات القتال البرية، وأن عددا منهم تولى مناصب قيادية ميدانية مباشرة وانعكس ذلك على القرارات الميدانية من حيث الميل إلى استخدام القوة المفرطة، وتبرير القتل والدمار من منطلق ديني لا عسكري بحت.
وأظهرت تحقيقات صحفية -من بينها صحيفة هآرتس في 18 ديسمبر/كانون الأول 2024 أن بعض العمليات في غزة اتسمت بما وُصف بأنه "استخدام مفرط وغير متناسب للقوة"، مع تكرار شعارات ومفردات توراتية أثناء القتال، خصوصا ما يطلق عليه خط الجثث في نتساريم وسط القطاع.
كما كشفت "هآرتس" في تحقيق نشر في سبتمبر/أيلول 2025 عن وجود فرقة غير نظامية تسمى " أوريا " تضم مستوطنين إسرائيليين من الضفة الغربية المحتلة وتنشط في تدمير منازل الفلسطينيين بقطاع غزة ويحصلون على رواتب خيالية.
وتستخدم الفلسطينيين دروعا بشرية، وهي إحدى فرق "تدمير غزة"، وترتبط ببتسلئيل زيني شقيق رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) المعين ديفيد زيني ، وتتم مشاهدة هؤلاء المستوطنين في جميع أنحاء غزة "وهم يشغلون أدوات هندسية ثقيلة لغرض واحد، وهو التدمير".
كما نشرت قناة "كان 11" تسجيلات لجنود يرددون عبارات مثل "نحن نحارب حرب الرب" أو "تطهير أرض إسرائيل من الأشرار"، وهذه اللغة الدينية -التي تُدرّس وتكرس داخل الأكاديميات- تُستخدم لتبرير الهجمات على المدنيين وتدمير الأحياء بأكملها.
وتُظهر عشرات المقاطع المصورة من غزة مشاهد لتدمير منازل ورفع شعارات مثل "الرب يقاتل معنا"، و"عودة أرض التوراة"، كما أن بعض الجنود التقطوا صورا أثناء عمليات الهدم وهم يرتدون رموزا دينية أو يحملون أسفارا توراتية.
ويرى المختص مناع أن الحرب على غزة ساعدت في إبراز المعاهد التحضيرية العسكرية بوصفها أداة مركزية في هذه العملية، حيث جرى توظيفها في إطار مزدوج يجمع بين إعادة التأهيل الاجتماعي وترسيخ السيطرة الأمنية الاستيطانية.
وقد أقيم 11 معهدا جديدا بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في مناطق غلاف عزة، مما يشير إلى المكانة المتزايدة لهذه الأطر في مشروع إعادة البناء وإعادة تشكيل النسيج المجتمعي الأمني.
    
    
        المصدر:
        
             الجزيرة
        
    
 
   مصدر الصورة 
  
 
   مصدر الصورة 
  
 
   مصدر الصورة