آخر الأخبار

"لن نغادر".. غزيون يواجهون التهجير قسرا من مدينتهم

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

غزة – بينما تُدكّ مدينة الحرب بلا هوادة، وتُفرّغ من أهلها قسرا، ولا ينقطع فيها هدير المدافع ولا أزيز الطائرات، وبينما تنطفئ الأحياء تباعا، ظلّ تنورٌ صغير قبالة مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة متوهجا كجمر عنيد من بين الركام والدخان.

مطعم شعبي كان آخر ما تبقّى من ملامح الحياة في المدينة المحاصرة، باق كعلامة صمود إنساني في قلب معركة التفريغ، يطعم من تشبثوا بغزة ورفضوا مغادرتها، ويجعل من الخبز بيانا ضد الموت.

"غزة أمنا، ولا أحد يترك أمه"، يقول صاحب المطعم حسين الحلو للجزيرة نت وهو يراقب زبائنه الذين يلتفون حول المكان بحثا عن لقمة في زمن الحصار، أو عن لحظة أمان عابرة وسط هذا الهرج والمرج.

يبدو المطعم ملاذا لمن قرروا البقاء، سواء كانوا مرضى على أسِرة الشفاء، أو ممرضين وأطباء يقتنصون لحظة استراحة، أو صحفيين يلتقطون أنفاسهم بين جولة وأخرى، أو نازحين يجدون في هذه اللقمات شريانا يُبقيهم على قيد المقاومة.

مصدر الصورة محمد شاهين يقرر البقاء لأداء واجبه الصحفي والأخلاقي تجاه الباقين في المدينة (الجزيرة)

التفرغ للتغطية

على مدخل المطعم، يتلقّف الصحفي محمد شاهين مراسل قناة الجزيرة مباشر قطعتين من المخبوزات سريعا بعد أن حزم درعه الصحفية وارتدى خوذته، منطلقا في طريقه نحو الظهور المباشر على رأس الساعة.

أرسل شاهين زوجته الحامل وأطفاله إلى جنوب القطاع طلبا للسلامة وللتفرغ للتغطية، حيث قرر أن يبقى في غزة، قرارٌ لم يرَ فيه شاهين تهوّرا ولا مغامرة، بل "واجبا إنسانيا ودينيا ووطنيا".

"نحن لا نتلقى التعليمات من جيش الاحتلال "، يقول للجزيرة نت، ويكمل "طالما أن الناس هنا باقون، فواجبي أن أبقى بينهم وأنقل معاناتهم، وأكون صوتهم وشاهدا على المجازر التي لا تتوقف بحقهم".

أقرّ شاهين بأن خروج كثير من زملائه الصحفيين أثّر فيه وأوحش المدينة، لكنه اعتبر أن ذلك حمّله مسؤولية مضاعفة بأن يملأ الفراغ بالنشر والتوثيق، وأن يضاعف جهده حتى لا يختفي صوت غزة مع أصوات من غادروها.

إعلان

باتت حياة شاهين والصحفيين المتبقين معه كسلسلة من التحديات حيث ينام في خيمة عند بوابة المستشفى، محاطا بأزيز الطائرات المسيّرة وبخطر الاقتحامات المفاجئة، يبحث عن ماء صالح للشرب، يقتنص وجبة متواضعة حين يجدها.

ويتنقل سيرا على الأقدام في طرق غير آمنة ليصل إلى أماكن الأحداث. ومع ذلك لا يوقفه شيءٌ عن التغطية، يقول "أحيانا يراودني الجزع، لكنني أستمد قوتي من عيون الناس، أراهم حزينين ومكلومين، لكن في وجوههم عزة نفس وصبر وصمود، ومن أجلهم سأبقى هنا حتى النهاية".

مصدر الصورة الشاب يوسف أبو زور يمنعه حبه لغزة وتعلقه بها من مغادرتها (الجزيرة)

أكثر من بقعة جغرافية

وبينما كان دافع الصحفيين الثابتين في غزة هو أن يظل صوتها وصورتها حاضرين، فقد كان "الحب" دافعا ليوسف أبو زور ليبقى في مدينته التي يراها أكثر من مجرد بقعة جغرافية، إلى مكان يرى فيه حياته كلّها؛ حيث ولادته وطفولته ودراسته وأصدقاؤه وأهله وذكرياته.

على قلب رجل واحد اتفق يوسف مع عائلته على عدم ترك غزة، رغم أن الاحتلال دمر كل ممتلكاتهم فيها، إلا أنهم يمارسون لعبة الكر والفر هربا من نار الإبادة، يقول يوسف للجزيرة نت "رغم أن المدينة تبدو فارغةً من الأهل والأصحاب، فإنني لا أشعر بغربة فيها، يؤنسني هواؤها وشوارعها وحتى دمارها، كما أرى في بقائي خيارًا وحيدا يمنحني الكرامة".

لا يرى الغزيون أن تعميم "من تبقى في غزة هم الفقراء" صحيحا، فكثير منهم أخذوا على عاتقهم البقاء رغم توفر القدرة المالية وأماكن للنزوح منها وسط أو جنوب القطاع، وكانت مشكلتهم في فكرة الاقتلاع نفسها، تمامًا كالدكتورعاصم النبيه الذي اعتبر البقاء في غزة هو آخر ما يمكن للثابتين فعله للحفاظ على ما تبقى من المدينة باعتبارهم حصنا أخيرا لها.

ويقول للجزيرة نت "عملي في البلدية التي تقدم الخدمات الأساسية، يضع على عاتقي واجبا أخلاقيا ودينيا وأدبيا، كما أؤمن بدورنا في تعزيز صمود الناس في المناطق التي يستمرون بتقديم خدماتهم فيها".

ويتراوح عدد الذين لا يزالون حتى الآن في مدينة غزة دون أن ينزحوا بين 340 ألفا و350 ألفا، بحسب مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة في تصريحات خاصة للجزيرة نت.

مصدر الصورة الناشط ماهر حبوش (وسط) يقرر البقاء في غزة إلى النفس الأخير (الجزيرة)

التجربة الأصعب

أما الناشط ماهر حبوش، الذي يتابعه قرابة نصف مليون إنسان على منصاته في مواقع التواصل الاجتماعي، فيعيش اليوم التجربة "الأصعب" في حياته، حيث يدرك أن ثباته في غزة ليس مجرد قرار شخصي، بل هو سند معنوي لآخرين كثر يشكل بقاؤه دعما وتثبيتا لهم.

لا ينكر ماهر تأرجحه بين يقين الصمود وقلق المجهول، يقول للجزيرة نت "تحدثني نفسي أحيانا بأنه لن نمر بظروف أقسى مما مرّ، لكن أحيانا ترادوني فكرة أن هذه المرة تبدو مختلفة عن سابقاتها". ويصف لحظته الراهنة بأنها انتظار ثقيل لـ"ساعة الصفر" التي لا يعرف متى تأتي، لكنه يجد في البقاء نوعًا من العبادة والرباط.

ويضيف "نجدد نية الرباط في هذه الأرض المباركة كل يوم"، معبرا عن أمله بأن يُفشل وجوده ومن معه مخطط احتلال غزة، أو أن يتحرك العالم ويوقف هذه المهزلة قبل فوات الأوان.

إعلان

عدد آخر من الغزيين يرون البقاء في غزة أمرا عقديا كأم محمد التي ترزح في قلب بقعة النار غرب مدينة غزة، تنفي أم محمد للجزيرة نت أن يكون بقاؤها في غزة اندفاعا عاطفيا أو حماسة وقتية، بل تراه نتاجا فكريا وعقديا نابعا من قناعة ووعي بالدين والقضية.

كما تكشف أم محمد عن نيتها البقاء ليس فقط مواجهة للاحتلال، بل حماية لظهر المقاومين الذين سيُتركون وحيدين إن خرج المدنيون، وهو في الوقت نفسه رفض لتحويل الغزّي إلى لقمة سائغة أو أن يتلقى أوامره من محتله.

وتقول أم محمد "لقد قدمنا المال والنفس والولد، وعشنا الخوف والجوع والتشرّد والأسر والنزوح، بعد ذلك لا شيء يمنعنا من البقاء والثبات".

هكذا وبينما تُمحى ملامح غزة حيًّا بعد آخر، يصرّ من تبقوا فيها على أن يحرسوا بقاءها بأجسادهم وقلوبهم، يرون في الخبز فعل مقاومة، وفي الثبات عبادة، وفي الرباط على هذه الأرض عهدا لا يُنكث. في عيونهم يتجلى معنى أن لا تكون غزة مكانا يُترك، بل أمًّا تُصان حتى الرمق الأخير.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

الأكثر تداولا دونالد ترامب اسرائيل حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا