الرباط- انتشر عناصر الأمن على طول شارع "فال ولد عمير" بحي "أكدال" في الرباط ، قبل الموعد الذي حددته حركة " جيل زد " لانطلاق احتجاجها عند الخامسة مساء الخميس، في حين أغلقت المحلات التجارية أبوابها في شارع اعتاد على الحركة الصاخبة والنشاط التجاري.
يقف رجال الأمن في حالة ترقب بانتظار بداية المظاهرة، ومرت ساعة قبل أن يظهر عدد من الشبان في إحدى زوايا الشارع، يتبادلون فيما بينهم النقاش حول الأوضاع، ثم ما لبث أن انضم إليهم آخرون، ليتحول حديثهم إلى شعارات تتردد بصوت واحد.
من بين هؤلاء ياسر بنعياد، شاب في الـ21 من عمره، ينحدر من مدينة سلا، حصل العام الماضي على بكالوريوس في البيولوجيا، ويشارك في احتجاجات "جيل زد" منذ يومها الأول، ورغم تخلفه عنها ليومين شهدت فيهما بعض المدن انفلاتات، فإنه عاد ليؤكد حضوره في اليوم السادس.
يتابع هذا الشاب نقاشات الحركة عبر منصة "ديسكورد"، ويقرأ التعليقات ويتشارك مع أعضائها المطالب، ويقول للجزيرة نت "نريد أن نرى بلدنا من بين أفضل البلدان في العالم، نطالب بمدارس جيدة ومستشفيات تقدم خدمات صحية لائقة".
ويؤكد "لا نريد أن نخرب مدننا أو نلحق الضرر بممتلكات الناس، احتجاجاتنا سلمية ومطالبنا واضحة، أما من يخرب فهو ليس منا".
في يومها السادس، مرت احتجاجات "شباب زد" في مدن الرباط والدار البيضاء وتطوان ومراكش وفاس في أجواء سلمية، رفعوا أصواتهم بالمطالب، في حين اكتفت قوات الأمن بمتابعتهم من بعيد.
وأعطيت تعليمات يوم الأربعاء لعناصر الأمن بعدم التعرض للمظاهرات، وذلك بعد منعها في الأيام الأربعة الأولى بدعوى غياب الترخيص، واعتقال مئات الشباب في عدة مدن قبل إطلاق سراح غالبيتهم لاحقا.
وفي العاصمة، رفع عشرات المحتجين يوم الخميس شعارات "حرية كرامة عدالة اجتماعية" و"بغينا سبيطار زوين" (نريد مستشفى جيد) للشبان والمسنين، "بغينا مدرسة زوينة تقرينا وتوعينا" (نريد مدرسة جيدة تعلمنا وتوعينا) و"علاش جينا واحتجينا، على السبيطار اللي مالقينا" (لماذا جئنا للاحتجاج؟ من أجل المستشفى الذي لم نجده).
ودفعت تجارب شخصية الشابة هبة، التي تدرس علم النفس بكلية الآداب بالرباط، للمشاركة في احتجاجات "جيل زد" منذ يومها الأول، إذ تعرض والدها لحادثة سير وعاشت معه معاناة قاسية داخل المستشفيات الحكومية.
وتقول للجزيرة نت "لا يعقل صرف الملايين في بناء الملاعب لاستضافة كأس العالم ، بينما لا نجد الأطباء والأجهزة في المستشفيات عندما نمرض أو يمرض آباؤنا".
وتعليقا على أحداث الشغب التي شهدتها بعض المدن، تقول "لم نتظاهر للتخريب، التدخلات الأمنية في بداية الاحتجاجات زادت الاحتقان والغضب، وتحولت بعض المظاهرات إلى مواجهات وأعمال عنف".
أما عبد الناصر أولاد عبد الله، وهو طالب ماجستير في العلوم السياسية، ينحدر من مدينة طاطا جنوب المغرب، فيحمل معه أوجاع منطقته ومعاناة أهلها للحصول على العلاج.
يقول للجزيرة نت "تموت النساء الحوامل في مدينتي بسبب غياب الرعاية الصحية، ونضطر للتنقل مسافة 300 كلم للوصول إلى مستشفى أغادير لطلب العلاج، فلا نجد فيه لا أطباء ولا أجهزة".
ويأمل عبد الناصر أن يكون لهذا الحراك الشبابي تأثير على جودة خدمات الاستشفاء في المستقبل القريب. ويضيف "مطالبنا مشروعة: محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإصلاح قطاعي الصحة والتعليم، اللذين تظهر الأرقام الرسمية والمؤشرات الدولية تدني خدماتهما"، لكنه في الوقت ذاته يتبرأ من "الانفلاتات" التي شهدتها بعض المدن ويؤكد "احتجاجاتنا سلمية وستبقى كذلك".
يجتمع شباب حركة "جيل زد" على منصة "ديسكورد" كل ليلة، يناقشون الظروف التي مرت منها الوقفات الاحتجاجية في مختلف المدن، ويتبادلون الأفكار، ثم يصوتون جماعة على قرار الاستمرار في الاحتجاج من عدمه.
يقول الخبير في الأمن الرقمي حسن خرجوج للجزيرة نت إن جيل زد ينجذب إلى منصة ديسكورد لكونها توفر فضاءات مغلقة وآمنة على عكس مواقع أخرى مثل " فيسبوك " الذي يتيح مساحات مفتوحة، ويضيف أن المنصة تمنح المستخدمين حرية أكبر في التعبير عبر هويات افتراضية وبعيدا عن رقابة العائلة.
وأوضح المتحدث أن ميزة الخصوصية تمثل جوهر قوة "ديسكورد"، فالوصول إلى الخادم لا يتم إلا عبر رابط خاص، وهو ما يجعل الفضاء محصورا في دائرة المهتمين فقط، مؤكدا أن "غياب خوارزميات التتبع كما هو الحال في إنستغرام و تيك توك وفيسبوك، جعلها أكثر تفضيلا لدى هذا الجيل".
وأشار إلى أن ديسكورد "يجمع أدوات متعددة في مكان واحد، من المحادثات النصية إلى المكالمات الصوتية والمرئية وتقاسم الروابط، وهو ما يلبي حاجيات هذا الجيل الذي يبحث عن مرونة وأمان في الوقت نفسه".
يضم خادم الحركة على هذه المنصة حوالي 166 ألف عضو، يظهر فيها الأعضاء بأسماء مستعارة وصور غير حقيقية، بل إن بعضهم يستخدم تقنية تعديل الصوت عند الحديث.
وتستضيف المجموعة أحيانا شخصية حقوقية لمناقشة الأوضاع في البلاد وكيفية تنظيم الاحتجاجات، دون وجود قيادة واضحة ومعلنة لهذا الحراك.
ويرى الإعلامي والباحث في علم السياسة عصام واعيس أن التخفي وراء أسماء مستعارة وعدم الإعلان عن قيادة الحراك أو المشرفين على تنظيم النقاش في منصة "ديسكورد"، مرده "الخوف من الملاحقات الأمنية والقضائية".
ويقول للجزيرة نت "هناك حساسية عالية تجاه أي طلب للإفصاح عن الاسم، بل هناك من يستعمل معدّلا للصوت قبل أن يبدأ في الكلام، وأفترض أن يكون استعمال طرق أخرى للتشفير وحماية الهوية الرقمية معمولا به أيضا".
وأوضح أن هذه الحركة تحمل ذاكرة احتجاجية، وتعرف أن صدر الدولة يضيق بالاحتجاجات الكبرى، كما أنها ترى النور في ظرف حقوقي تنتعش فيه المضايقات والاعتقالات تجاه الصحفيين والنشطاء والحقوقيين، وانتشار مطالب بتفصيل قوانين جديدة تضيّق مساحة حرية الرأي والتعبير.
بالمقابل، يرى واعيس أن الحركة تخسر القدرة على التنظيم والتأطير وكسب ثقة قوى وطنية جديدة، فعدم وجود وجه أو رمز لها يتركها عرضة للانقسام أو الفشل أو الاستغلال من هذه الجهة أو تلك.
بعد أحداث شغب في بعض المدن، قررت الحركة تحديد زمن محدد للوقفات الاحتجاجية، وإنهائها قبل حلول الظلام لتفادي أي انفلات أمني أو صدامات.
وأكدت الحركة -في بيان لها أمس الخميس- أنها تحث المتظاهرين على الحفاظ على سلمية احتجاجهم والتركيز على رسالتهم، ودعتهم إلى المشاركة في المظاهرات بأصواتهم فقط.
وحددت مطالبها في أربع قضايا:
يقول واعيس إنه تواصل مع أحد المشرفين على صفحة الحركة في "ديسكورد" حول مطالبها، فأكد له أنها تشمل أيضا "استقالة الحكومة، وإصلاحا جذريا لقطاعي الصحة والتعليم، دون تقديم تفاصيل وتصور لطبيعة هذا الإصلاح".
ويرجح المتحدث أن هناك رغبة في إنتاج وضع سياسي جديد لدى المحتجين، "فبالنسبة لهم الوجوه السياسية الحالية احترقت وانتهت وصارت جزءا من المشكلة لا الحل".
وردا على سؤال الجزيرة نت إن كان هناك أفق واضح لمطالب واحتجاجات "جيل زد"؟ يعود بنا عصام واعيس إلى الحوار الذي أجراه مع أحد المشرفين على صفحة الحركة في "ديسكورد"، ويقول "سألته هل ستتوقف الاحتجاجات إذا استقالت الحكومة"، فأحالني على الشعب "أي أن القرار لشعب المحتجين، وهذا جواب لا يشي بأفق ومطالب محددة".
ويفسر واعيس ذلك بالمنطق الذي تتبناه هذه الحركية الاحتجاجية، أي اعتماد الحركة منطق الاستفتاءات على قرارات الاحتجاج بين أعضائها، وغياب قيادة تقرر وأتباع ينفذون، لكن هذا المنطق، في نظره، "لن يصمد أمام تعقيدات الواقع، كما أنه لا يعكس كل الحقيقة".
في نهاية المطاف، يؤكد الباحث، أن الحركة "ستحتاج عاجلا أم آجلا إلى تحديد مطالبها بواقعية، وأن تأخذ تعقيدات المشهد الداخلي والخارجي في الحسبان، وربما أهم من كل شيء، الإعلان عن نفسها".
أما مستقبل احتجاجات الحركة وآثارها، فيعتمد حسب المحلل على كيفية تطور تعاطي الدولة مع الاحتجاجات، وكيف ستتطور المطالب ومدى معقولية تطبيقها.