أعلنت دمشق وكييف استئناف العلاقات الدبلوماسية بعد قطيعة استمرت ثلاث سنوات، في لقاء جمع الرئيس أحمد الشرع بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على هامش اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ورحب زيلينسكي بالخطوة، مؤكدًا استعداد بلاده لدعم سوريا في مسارها نحو الاستقرار، في المقابل عبّرت دمشق عن تطلعها لبناء "شراكات إستراتيجية" مع كييف في مختلف المجالات.
وقطعت أوكرانيا علاقاتها مع سوريا في عام 2022 بعد أن اعترفت حكومة الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد بمساحات من أوكرانيا تحتلها روسيا كمناطق "مستقلة" تدعمها روسيا.
غير أن أهمية هذا التطور تتجاوز حدود استعادة التمثيل الدبلوماسي، إذ يضع العلاقة الحساسة بين دمشق وموسكو أمام الاختبار. فبينما يُنظر إلى الانفتاح على كييف كجزء من سياسة سورية للانفتاح على العالم وتصفير المشاكل، يرى مراقبون أن هذه المصالحة قد تُحدث تباينًا ملموسًا مع روسيا، وتفتح الباب أمام إعادة صياغة موقع سوريا بين الشرق والغرب.
جاء انفتاح دمشق على كييف مدفوعًا بجملة عوامل إستراتيجية وعملية، إذ يرى مراقبون أن سوريا الجديدة تسعى في المقام الأول إلى كسر العزلة الدولية التي عانت منها خلال حقبة النظام السابق، وبناء علاقات متوازنة مع مختلف القوى العالمية.
في المقابل، يقرأ الباحث في الشأن الأوكراني، منتصر البلبل، هذا التقارب في سياق "التضامن الثوري السوري مع أوكرانيا” ضد عدو مشترك هو روسيا، فالشعبان السوري والأوكراني ذاقا ويلات التدخلات الروسية العسكرية، وانتصار أوكرانيا على روسيا سيؤثر مباشرة على سوريا.
وعلى الجانب العملي، يأتي البحث عن المصلحة الوطنية السورية في صلب الدوافع. فقد تعرضت سوريا لضغوط اقتصادية خانقة بعد سقوط النظام، بعضها نتج عن ارتهان النظام السابق للمساعدات الروسية المشروطة، يضيف البلبل.
ويرى البلبل، في حديثه للجزيرة نت، أن القيادة السورية ترى مصلحة سوريا وشعبها في الانفتاح الإستراتيجي على الدول التي سوف تقوم بإعادة الإعمار والتنمية وتحقيق الاستقرار في سوريا، ومنها أوكرانيا لما تمتلك من مقومات اقتصادية وسياسية كافية لدعم سوريا نحو الأفضل.
وتشير تقارير إلى أن موسكو علّقت إمدادات القمح والنفط عن سوريا في الفترة التالية لسقوط النظام السابق، مما دفع دمشق إلى تنويع شراكاتها وتأمين بدائل.
وفي هذا السياق، سارعت كييف إلى مد يد العون بإرسال شحنات كبيرة من الحبوب والمساعدات الغذائية إلى سوريا مطلع عام 2025، ضمن ما وصفته بالدعم الإنساني للشعب السوري.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أرسل الرئيس الأوكراني زيلينسكي وزير خارجيته أندريه سيبيغا إلى دمشق لإجراء محادثات مع القيادة السورية الجديدة، وحثها على إنهاء الوجود الروسي على أراضيها، ووعد بإرسال شحنات من المساعدات الغذائية.
على الرغم من حساسية إعادة العلاقات بين دمشق وكييف، فإن موسكو لم تصدر أي تعليق رسمي على الخطوة، مفضّلة التزام الصمت، بل إن المشهد بدا أكثر غموضا عندما التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني نظيره الروسي سيرغي لافروف في نيويورك بعد يوم واحد فقط من الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين دمشق وكييف.
المستشار في شؤون السياسة الخارجية الروسية، رامي الشاعر، يقرأ هذا الصمت باعتباره إقرارًا بأن الأمر شأن سيادي سوري بحت، يعكس إرادة دمشق في توسيع دائرة انفتاحها وبناء شراكات جديدة تخدم مصالحها الوطنية.
وأكد الشاعر، في حديثه للجزيرة نت، أن روسيا تدرك طبيعة المرحلة وأن دمشق تسعى إلى سياسة خارجية متوازنة لا تتحيز لطرف ضد آخر، وهذا الموقف يعكس إدراكًا روسيًا بأن الحفاظ على العلاقة مع سوريا يستدعي احترام خياراتها الجديدة، حتى إن كانت لا تصب دائمًا في صالح موسكو.
لكن في المقابل، يرى الباحث في الشأن الأوكراني، منتصر البلبل، أن موسكو لن تقف موقف المتفرج طويلاً، وأنها ستسعى بكل الوسائل لتعطيل هذا التقارب كي لا تخسر انفرادها بالملف السوري.
ومع ذلك، يؤكد أن القيادة السورية الجديدة أغلقت هذا الباب بذكاء، إذ تفهم جيدًا أن موسكو ليست بوابة الانفتاح العربي أو الدولي، وأن مستقبل سوريا يقوم على احترام سيادتها واستقلال قرارها السياسي والاقتصادي.
وتأتي هذه التطورات في ظل حراك متسارع في العلاقة بين دمشق وموسكو، إذ سبق أن زار وفد روسي رفيع برئاسة نائب رئيس الحكومة ألكسندر نوفاك دمشق قبل أسابيع، كما زار وفد وزاري سوري موسكو نهاية يوليو/تموز والتقى الرئيس فلاديمير بوتين ، وهو لقاء وصفته دمشق حينها بالتاريخي، مؤكدة انطلاق مرحلة جديدة من التفاهم السياسي والعسكري بين البلدين.
وحرص الرئيس السوري أحمد الشرع على طمأنة موسكو في أول تعليق له بعد سقوط الأسد، مؤكدًا متانة العلاقات معها، وواصفًا روسيا بأنها "ثاني أقوى دولة في العالم"، ومشدّدًا على أن دمشق لا تسعى لإقصائها من المشهد السوري احترامًا لعلاقات تاريخية ممتدة.
على الرغم من إعادة فتح دمشق أبوابها على كييف، تبقى العلاقة مع موسكو محكومة بقاعدة المصالح المتبادلة التي لا يستطيع أي طرف الاستغناء عنها، بحسب ما يشير متابعون للشأن الروسي.
ويبدو من خلال التصريحات والزيارات بين الطرفين أن دمشق وهي تعيد رسم موقعها الخارجي، ما زالت ترى في روسيا شريكًا لا غنى عنه في ملفات أمنية وسياسية حساسة.
فموسكو تستطيع لعب دور في الضغط لوقف الاعتداءات الإسرائيلية، وفي معالجة ملف فلول النظام السابق في الساحل حيث تحتفظ بوجود عسكري، فضلًا عن دورها في ملف "قسد" من خلال قاعدتها الجوية واتصالاتها المباشرة مع قيادتها.
في المقابل، تعتبر موسكو أن حضورها في سوريا عنصر رئيسي في إستراتيجيتها بالشرق الأوسط، إذ تشكل قاعدة طرطوس النقطة الوحيدة للبحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط للإصلاح والتجديد، مما يجنب السفن الحربية الروسية رحلة العودة إلى قواعدها في البحر الأسود عبر المضايق التركية.
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث في الشأن الروسي، رائد جبر، أن ما يحكم العلاقة اليوم ليس المواقف التكتيكية بل المصالح المشتركة بين البلدين.
ويوضح جبر في حديثه للجزيرة نت، أن موسكو حريصة على الحفاظ على وجودها العسكري وإعادة ترتيبه بما يضمن مصالحها ومصالح دمشق معًا، مشيرًا إلى أن التعاون الميداني -كما في الدوريات الروسية المشتركة بالقامشلي- قد يمتد ليشمل مناطق أخرى مثل الجولان ، في إطار التفاهمات السابقة.
ويشير الباحث جبر إلى أن ما جرى في الأمم المتحدة من استقبال واسع للرئيس أحمد الشرع يعكس إدراك روسيا عمق التحولات في سوريا، وأن عليها التعامل مع الواقع الجديد بمرونة لا تصطدم بمسار الانفتاح السوري.
هذا البعد ظهر جليًا خلال استقبال الشرع وفدًا روسيًا رفيعًا برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك في سبتمبر/أيلول الجاري، حيث أكد نوفاك أن بلاده تريد فتح صفحة جديدة في العلاقات، مشددًا على أهمية زيارة الرئيس السوري المرتقبة إلى موسكو، ومعلنًا استعداد روسيا للمساهمة في مشاريع الطاقة والبنى التحتية والتواصل مع شركاء إقليميين، منهم قطر، لتعزيز الاستقرار في سوريا.
تسعى دمشق اليوم إلى رسم ملامح سياسة خارجية مختلفة جذريًا عن تلك التي حكمت البلاد عقودا في ظل النظام السابق. فلا يبدو أن القيادة الجديدة مستعدة لتكرار خطأ الارتهان المطلق لأي طرف دولي.
فقد أكد الرئيس أحمد الشرع خلال لقاءاته على هامش اجتماع الدورة الثمانين للأمم المتحدة أن بلاده تسعى إلى خلق توازن يتيح لها هامشًا أوسع لحماية المصلحة الوطنية، والانفتاح على جميع الدول دون استثناء.
هذا التوجّه يعكس ما يسميه بعض المراقبين "سياسة القطيعة مع الإرث القديم"، فبحسب تحليل لمركز جسور للدراسات، كلما تعمّق انفتاح دمشق على الغرب، تراجع تأثير موسكو تلقائيًا، خصوصًا في ظل ذاكرة سورية مثقلة بتدخلات روسيا وإيران في الحرب وما خلّفته من جروح عميقة، لذلك تبدو العلاقة معهما اليوم أقرب إلى شراكات مشروطة، بينما تسعى دمشق إلى كسر العزلة والانفتاح على الجميع.
وفي هذا السياق، يرى الباحث السياسي، أسامة البشير، أن عودة سوريا إلى كييف ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل جزءا من محاولة واعية لطي صفحة نظام جعل البلاد أسيرة تحالف ضيق مع موسكو وطهران، وانغمس في عزلة أرهقت الشعب.
ويضيف البشير، في حديثه للجزيرة نت، أن الرئيس الشرع وقد جاء إلى السلطة على خلفية ثورة شعبية، يدرك أن شرعيته اليوم مشروطة بقدرته على تحقيق تطلعات السوريين في حياة أفضل بعد سنوات الدم والحصار، ومن هنا جاء التوجّه نحو سياسة خارجية جديدة عنوانها الانفتاح والتوازن.
أما الباحث منتصر البلبل، فيعتبر أن السوريين لمسوا للمرة الأولى بارقة أمل حين بدأت قبضة روسيا على القرار الوطني تضعف، خصوصًا بعد سقوط حكم عائلة الأسد، فاستعادة العلاقات مع كييف تُقرأ شعبيًا كخطوة لكسر عزلة مفروضة، والتخلّي عن خصومات مجانية لم تخدم السوريين يومًا.
هذا التحول الفكري والسياسي تم التعبير عنه أيضًا على لسان الرئيس أحمد الشرع نفسه، إذ أكد في مقابلته مع الإخبارية السورية أن "سوريا تبحث عن الهدوء التام في العلاقات مع كل دول العالم والمنطقة، وهذه سياسة واضحة منذ البداية".