في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في صباح الثالث من سبتمبر/أيلول 2025؛ وفي ساحة تيانانمن، قلب الصين الرمزي، اصطف عشرات الآلاف من الجنود الصينيين في عرض عسكري وُصف بأنه الأكبر في تاريخ البلاد الحديث، أظهرت فيه بكين كل منظوماتها العسكرية القتالية الحديثة موجهة رسالة استثنائية إلى العالم بمناسبة الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية وانتصارها على اليابان.
غير أن الاستعراض لم يكن عسكريًّا فقط، بل حمل طابعًا مسرحيًّا دبلوماسيًّا. فقد حرصت القيادة الصينية على استقطاب حضور أجنبي واسع، أرادت من خلاله تأكيد مكانتها في قيادة الجنوب العالمي، وأنها لم تعد مجرد خصم معزول للغرب. كان الحضور بمثابة تصويت بالثقة في الدور الصيني، أما الغياب فحمل دلالات لا تقل أهمية.
الفلبين، ورغم أهميتها للصين فقد تغيبت، ربما بسبب ارتباطها الإستراتيجي بواشنطن والذي ينبع من اعتبارها رأس حربة الحلفاء الأميركيين وأقربهم للصين. أما سنغافورة فاكتفت بإرسال نائب رئيس الوزراء، في إشارة إلى حياد محسوب أو ميل أوضح نحو الولايات المتحدة. في المقابل، وفّرت مشاركة فيتنام وماليزيا وإندونيسيا وكمبوديا وميانمار غطاءً دبلوماسيًّا لبكين، إذ بدا أن غالبية دول جنوب شرق آسيا تفضل التعاون مع الصين على المواجهة، رغم استمرار النزاعات في بحر جنوب الصين.
المشهد الأكثر رمزية كان جلوس الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ. بالنسبة لموسكو، الغارقة في عزلة الحرب الأوكرانية، شكّل الحضور في بكين نافذة شرعية ورسالة بأن روسيا ليست وحدها. أما بالنسبة للصين، فقد كان ذلك تجسيدًا حيًّا للثقة الإستراتيجية بين البلدين، وبيانًا سياسيًّا بأن بكين وموسكو تتجاوزان حدود اللحظة الراهنة نحو تنسيق أوسع. التوقيت أيضًا لم يكن عرضيًّا؛ ففي الوقت الذي ترعى فيه واشنطن حوارًا ثلاثيًّا مع موسكو وكييف، اغتنم شي وبوتين المناسبة لمناقشة ما بعد الحرب، بما في ذلك احتمالات السلام ورسم ملامح نظام عالمي جديد، حتى لو لم يُكشف رسميًّا عن تفاصيل هذه النقاشات.
جانب آخر لا يقل أهمية تمثل في خطاب شي جين بينغ أمام أكثر من 50 ألف متفرج. فقد أراد شي أن يُعدّل سردية تاريخية ظلّت لعقود تحت هيمنة الرواية الغربية التي منحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الحصة الكبرى من الفضل في هزيمة النازية واليابان، وهمّشت دور الصين. ومن خلال كلمته، أكد أن الصين كانت لاعبًا محوريًّا في هزيمة اليابان وشريكًا مؤسسًا للنظام الدولي. اتسم خطابه اتجاه طوكيو بالحذر، محمّلًا اليابان مسؤوليتها التاريخية دون الانزلاق إلى خطاب تصعيدي، داعيًا بدل ذلك إلى بناء "مجتمع آسيا المحيط الهادي بمصير مشترك". والأهم أنه ربط بين ماضي الصين بوصفها أمة ضحية، وحاضرها بوصفها قوة صاعدة، ومستقبلها بوصفها مهندسا طامحا لإعادة تشكيل النظام الدولي.
انطلاقًا من هذه الإشارات التي حملها العرض العسكري؛ يرى مراقبون أن ما جرى لم يكن مجرد مناسبة بروتوكولية، بل كان فعلًا استراتيجيًا بامتياز له دلالات مهمة. فقد حمل رسالة مركبة تمزج بين القوة العسكرية والتموضع الدبلوماسي وإعادة كتابة السرد التاريخي، بحيث تُوجَّه إشاراته، إلى الداخل الذي يبحث عن الثقة والفخر، وإلى الخارج الذي يتابع باهتمام رسائل الردع القادمة من بكين.
أما الإعلان الأوضح فكان موجهًا إلى واشنطن: لست وحدك في الكون. فالصين أصبحت تعرض نفسها باعتبارها قوة مسؤولة دوليا، محاطة بدائرة متنامية من الأصدقاء والشركاء، وجيش مستعد للقتال متى استدعت الضرورة، وقيادة عازمة على حماية مكانتها وصياغة ملامح النظام العالمي المقبل.
أول الأدوات التي استخدمتها بكين في صياغة رسائلها الإستراتيجية تمثلت في إبراز ما يُعرف بـ"الثالوث النووي" الصيني، أي القدرة على تنفيذ ضربات نووية من البر والبحر والجو في آن واحد، وهو ما يضعها في مصاف القوى النووية الكبرى.
على صعيد القوة البرية، قدمت بكين الصاروخ الباليستي العابر للقارات "دونغ فنغ-61" (رياح الشرق-61)، وهو سلاح جديد بمدى بعيد وقدرة على حمل رؤوس نووية متعددة. أهم ما يميزه أنه محمول على منصات متحركة، مما يمنحه قدرة عالية على المناورة والإخفاء، ويجعله أبعد عن الاستهداف مقارنة بالصواريخ التقليدية المتمركزة في الصوامع الثابتة. إلى جانب ذلك، عُرضت نسخة مطوّرة من الصاروخ "دونغ فنغ-31" المتوسط إلى البعيد المدى، الذي يُعد أحد أعمدة الردع النووي البري الصيني منذ سنوات.
أما في مجال القوة البحرية، فقد كُشف عن الصاروخ الباليستي "جولانغ-3" (موجة المحيط-3)، المصمم للإطلاق من الغواصات النووية. هذا الصاروخ يمنح الصين القدرة على تنفيذ ضربات خفية من أعماق البحار، بما يضيف عنصر المفاجأة إلى إستراتيجيتها النووية ويعزز مناعة الردع، إذ يضمن للصين قدرة على الرد حتى في حال تعرضت لهجوم مفاجئ.
وفي القوة الجوية، استعرضت بكين الصاروخ البعيد المدى "جينغ لي-1" (الرعد الصاعق-1) المحمول على القاذفات الإستراتيجية. يتميز هذا السلاح بإمكانية إطلاقه من مسافات بعيدة، مما يوفر مرونة كبيرة في استهداف مواقع إستراتيجية للخصوم، ويكمل حلقة القدرة النووية الثلاثية بين البر والبحر والجو.
وبفضل هذا التكامل بين أذرعها النووية الثلاثة، أرادت الصين أن تؤكد أنها لم تعد قوة إقليمية فحسب، بل صارت قوة نووية عظمى مكتملة الأركان، قادرة على توجيه ضربات إستراتيجية متزامنة من كل المسارات، واضعة أي خصم محتمل تحت طائلة الردع المستمر.
ولم يتوقف الاستعراض عند ذلك، بل برز أيضًا الصاروخ الباليستي العابر للقارات "دونغ فنغ-5 سي"، وهو أحدث نسخة من السلسلة التي بدأ تطويرها منذ سبعينيات القرن الماضي. النسخة الجديدة تتميز بمدى يتجاوز 20 ألف كيلومتر، وقدرة على حمل ما يصل إلى 12 رأسًا نوويًّا، مما يجعلها نظريًّا قادرة على تغطية الكرة الأرضية كلها. هذه الصواريخ الإستراتيجية تمثل في نظر بكين الورقة الرابحة لقوة الردع النووي، وأداة لحماية "سيادة الوطن وكرامته" كما تصفها القيادات الصينية.
إلى جانب هذا البُعد النووي، كشفت الصين عن ترسانة متقدمة من الصواريخ الفرط صوتية المضادة للسفن. فقد ظهر الصاروخ الجديد "ينغ جي-15" (ضربة النسر-15) لأول مرة، إلى جانب عرض فئات "ينغ جي" الأخرى التي سبق اختبارها ضد نماذج لهياكل حاملات طائرات أميركية.
تنتمي هذه السلسلة إلى فئة الصواريخ المجنحة أو الباليستية التكتيكية، وهي صواريخ تُطلق عادة من السفن أو الطائرات، وتتميز بقدرتها على التحليق على ارتفاعات منخفضة واتباع مسارات مبرمجة بدقة لملاحقة الأهداف البحرية الكبيرة. وعلى عكس الصواريخ الباليستية الإستراتيجية التي تُستخدم للردع النووي، فإن صواريخ "ينغ جي" مخصّصة للمعارك المباشرة، إذ صُممت لإصابة أهداف محددة بدقة عالية وإلحاق أضرار جسيمة بالقطع البحرية الضخمة مثل المدمرات وحاملات الطائرات. ويكمن تفوقها النوعي في سرعتها الفرط صوتية التي تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت، وهو ما يجعل اعتراضها مهمة شبه مستحيلة على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية.
أما الصاروخ الأبرز في هذه الفئة، فكان "ينغ جي-21" المعروف بلقب "قاتل حاملات الطائرات". وهو صاروخ باليستي مضاد للسفن يُعتقد أن مداه يبلغ نحو 1500 كيلومتر، ويُنظر إليه بوصفه جزءًا من إستراتيجية بكين لتحييد أهم أدوات القوة الأميركية في البحار، أي حاملات الطائرات. يتميّز الصاروخ بسرعته الفائقة، إذ يتجاوز في مرحلة الطيران المتوسط ستة أضعاف سرعة الصوت (ماخ-6)، وقد يصل عند اقترابه من الهدف إلى عشرة أضعاف هذه السرعة، مما يجعل اعتراضه مهمة شبه مستحيلة. كما يتبع مسارًا شبه باليستي يسمح له بالمناورة أثناء الطيران، وهو ما يمنحه دقة عالية في إصابة الأهداف البحرية الكبيرة، حتى لو كانت متحركة.
زُوّد "ينغ جي-21" بأنظمة ملاحة متطورة تجمع بين القصور الذاتي والتوجيه عبر الأقمار الصناعية، بما يضمن إصابة دقيقة. ويمكن تزويده برؤوس حربية متعددة، سواء كانت تقليدية شديدة الانفجار أو ذخائر مخصصة لإلحاق أضرار قصوى بالسفن الضخمة. وقد ظهر الصاروخ لأول مرة على متن المدمرات الصينية الحديثة من طراز رنهاي، ثم جرى تطوير نسخة تُطلق من الجو بواسطة القاذفة الإستراتيجية "شيآن إتش-6″، مما وسّع بشكل كبير من نطاق استخدامه ومرونته.
وبذلك، أصبح "ينغ جي-21" سلاحًا مزدوج المنصات، يمنح الصين قدرة على توجيه ضربات دقيقة وسريعة سواء كانت من البحر أو من الجو، ويُكرّس موقعها بوصفها قوة بحرية قادرة على تحدي التفوق الأميركي في المحيط الهادي.
وعلى صعيد الدفاع الجوي والحرب الإلكترونية، عرضت الصين أنظمة جديدة صُممت للتعامل مع طيف واسع من التهديدات المعاصرة، تبدأ من الأقمار الاصطناعية وتنتهي بالطائرات المسيّرة. أبرز هذه الأنظمة كانت منظومة "الراية الحمراء-29" (HQ-29)، وهي سلاح دفاعي مخصص لاعتراض الصواريخ الباليستية أثناء مرورها في الفضاء خارج الغلاف الجوي، فضلًا عن استهداف الأقمار الصناعية في المدار الأرضي المنخفض. وبهذا، تتيح المنظومة لبكين القدرة على شلّ وسائل المراقبة والتوجيه التي تعتمد عليها جيوش الخصوم، أي ضرب "العيون" التي ترصد وتوجّه من السماء.
كما قدمت بكين أسلحة جديدة تعتمد على الليزر العالي الطاقة، القادر على إطلاق أشعة مركّزة لتدمير الطائرات المسيّرة الصغيرة أو تعطيلها على الفور، بتكلفة أقل بكثير من الصواريخ التقليدية. وإلى جانب ذلك، ظهرت أنظمة حرب إلكترونية تعمل بالموجات الميكروية، وهي موجات كهرومغناطيسية قادرة على تعطيل أنظمة التحكم في أسراب المسيّرات، مما يفقدها الاتصال أو التوازن ويجعلها غير فعّالة.
وقد أطلق الإعلام الصيني على هذه المجموعة اسم "الثالوث الحديدي ضد المسيّرات"، لأنها تجمع بين ثلاثة مستويات من الحماية: الصواريخ التقليدية التي تُسقط الأهداف من مسافات بعيدة، وأشعة الليزر التي تعترضها بسرعة ودقة، إضافة إلى الموجات الميكروية التي تُربكها وتشوش عليها. وبذلك، قدّمت الصين صورة متكاملة عن منظومة دفاعية جديدة قادرة على مواجهة أسراب الطائرات المسيّرة.
أما في مجال الطائرات المسيّرة والمركبات غير المأهولة، فقدّم العرض العسكري صورة واضحة عن انتقال بكين إلى ما يمكن تسميته "الحرب الذكية". فقد استعرضت البحرية الصينية الغواصة الآلية "إتش إس يو-100″، وهي مركبة غير مأهولة بطول يقارب 20 مترًا، تشبه في هيئتها الغواصات التقليدية، لكنها مصممة للعمل من دون طاقم. ويُرجّح أن مهمتها الأساسية تتركز على جمع المعلومات الاستخبارية أو استهداف قوات العدو في أعماق البحار وعلى مسافات بعيدة داخل المحيط، بما يمنح الصين أداة جديدة للتفوق في ساحة الحرب البحرية.
وفضلًا عن ذلك، كشف جيش التحرير الشعبي عن غواصة آلية أخرى هي "إيه جاي إكس-002″، المخصّصة لزرع الألغام البحرية. ويُنظر إلى هذا السلاح باعتباره وسيلة فعّالة لفرض حصار بحري محتمل على تايوان أو لإغلاق الممرات والمضايق الحيوية في شرق آسيا إذا اندلع نزاع واسع النطاق. وبهذا، قدّم العرض العسكري صورة واضحة عن توجه بكين المتسارع نحو إدماج الأنظمة البحرية غير المأهولة في إستراتيجيتها، بما يعزز قدرتها على مراقبة أعماق البحار وتهديد طرق الملاحة الدولية عند الحاجة.
ويشير الخبير العسكري الصيني باي مينغ تشين إلى أن امتلاك الصين أحدث الغواصات الآلية الكبيرة الحجم يجعلها في وضع مثالي لمواجهة التهديدات في أعماق البحار، خصوصًا في ضوء الدروس المستفادة من حادثة تخريب خط أنابيب نورد ستريم، وهو ما يبرز البعد الإستراتيجي لهذه التكنولوجيا باعتبارها وسيلة لحماية البنية التحتية الحيوية تحت سطح البحر.
ولم يتوقف التطوير عند أعماق البحار، إذ ظهرت في العرض طائرات مسيّرة متطورة قادرة على العمل في الجو وتحت الماء معًا، إضافة إلى مروحيات مسيّرة قابلة للإطلاق من متون السفن لتوسيع نطاق الاستطلاع البحري. كما استعرضت الصين روبوتات قتالية لافتة على شكل "كلاب آلية" محمولة فوق مدرعات، يمكن استخدامها في مهام الاستطلاع والدعم اللوجستي، بل حتى في القتال المباشر إذا جُهّزت بالأسلحة.
أما على مستوى سلاح الجوّ، فقد كشفت بكين عن أربعة أنواع من المقاتلات المصممة للعمل على متون حاملات الطائرات، في دلالة واضحة على التسارع الكبير في تطوير قدرات سلاحها البحري والجوي. ومن أبرزها المقاتلة "جيه-15 تي"، وهي نسخة مطوّرة من الطائرة "جيه-15″، وتمتاز بقدرتها على الإقلاع بوسيلتين مختلفتين.
الأولى هي طريقة المنحدر التزلجي، المعتمدة في حاملات الطائرات الأقدم، حيث يُبنى منحدر مائل في مقدمة الحاملة يساعد الطائرة على الاندفاع والتحليق في الجو. هذه الآلية بسيطة نسبيًّا ولا تتطلب تجهيزات تقنية معقدة، لكنها تحدّ من حمولة الطائرة، فلا يمكنها الإقلاع بوزنها من الوقود والأسلحة كاملًا.
أما الطريقة الثانية فهي نظام المنجنيق أو المقلاع، المستخدم في الحاملات الحديثة، حيث تُثبَّت الطائرة على سكّة خاصة تُطلقها بقوة هائلة لتبلغ سرعة الإقلاع في مسافة قصيرة. يتيح هذا النظام للطائرة الانطلاق بحمولتها الكاملة من الوقود والسلاح، مما يعزز قوتها القتالية بشكل كبير.
وبفضل هذه المرونة، تتوافق "جيه-15 تي" مع مختلف أنواع حاملات الطائرات التي تملكها الصين، بما يمكّنها من أداء مهامها بكفاءة عالية في بيئات تشغيلية متنوعة.
أما الطائرة "جيه-15 دي تي"، فهي نسخة أخرى متخصصة في الحرب الإلكترونية، أي أنها لا تقتصر على خوض القتال المباشر، بل صُممت للتشويش على رادارات العدو وأنظمة اتصالاته، بما يجعلها "العين المموهة" التي ترافق الطائرات الهجومية وتزيد فرص نجاح مهامها. وبفضل إمكانية إطلاقها أيضًا عبر النظامين (المنجنيق أو المنحدر التزلجي)، فإنها تضيف طبقة جديدة من القوة التكتيكية للبحرية الصينية.
وعلى رأس الطائرات التي قدمتها الصين، تأتي المقاتلة الأحدث والأكثر لفتًا للانتباه: "جيه-35" الشبحية المخصصة لحاملات الطائرات، التي تتمتع بقدرات إخفاء عن الرادارات، إضافة إلى مرونتها في حمل أسلحة متطورة، بما يجعلها حجر أساس في أي معركة جوية بحرية مستقبلية.
نتيجة لذلك، يصف المراقبون "جيه-35" بأنها "القطعة البارزة من معدات الانتقال من الدفاع عن البحر القريب إلى الدفاع عن البحر البعيد"، فهي تجسد طموح الصين للانتقال من حماية سواحلها فقط إلى بسط قوتها في أعماق المحيطات.
هذا التوجه يتقاطع مع ما أشار إليه الخبير العسكري الصيني باي مينغ تشين، إذ لفت إلى أن التشكيلات الجوية التي استعرضها جيش التحرير الشعبي تؤكد أن القاذفات الإستراتيجية الصينية أصبحت قادرة على ضرب أهداف أبعد بكثير، مستفيدة من قدرات التزود بالوقود جوًّا لطائرة واي-20. وهنا تتضح معالم مرحلة جديدة من تطوير سلاح الجو الصيني، قوامها الجمع بين القاذفات البعيدة المدى والطائرات الشبحية المتعددة المهام، في إطار منظومة متكاملة.
بصورة مجملة؛ يمكن القول إن العرض جسّد رؤية بكين لعقيدة قتالية تسعى من خلالها إلى دمج القدرات الهجومية والدفاعية في شبكة واحدة، تمنع الخصم من الاقتراب وتتيح الاستهداف الدقيق عبر مسافات شاسعة، وتحرم العدو من أي تفوق ميداني. فكل قطعة سلاح لا تُقدَّم كمنظومة منفردة، بل كخيط ضمن نسيج شبكة قيادة وتحكم موحّدة، تُرسم من خلالها صورة كاملة للمعركة قبل أن تبدأ.
في قلب هذه العقيدة يبرز مفهوم المنع من الوصول/الحرمان من الحركة (A2/AD)، وهو تصور إستراتيجي يهدف إلى إقامة مظلة ردعية واسعة تجعل اقتراب أي قوة بحرية معادية من المياه الصينية، أو من بحري الصين الجنوبي والشرقي، مهمة محفوفة بالأخطار. ويتحقق ذلك عبر تداخل عدة طبقات من القوة، تشمل صواريخ بعيدة المدى مثل دي إف-26، قادرة على ضرب أهداف حتى جزيرة غوام الأميركية، وصواريخ فرط صوتية مضادة للسفن مثل ينغ جي-21، تمكنها إصابة القطع البحرية الضخمة بسرعة خارقة، إضافة إلى أسراب الغواصات الآلية والمسيّرات البحرية القادرة على العمل كحقول ألغام متحركة أو شبكات إنذار مبكر في أعماق البحر.
هذا المزج يجعل مهمة حاملات الطائرات والسفن الكبرى أكثر تعقيدًا إذا ما اقتربت من السواحل الصينية أو من مضيق تايوان. فبدلًا من مواجهة تهديد واحد يمكن التنبّؤ به، تجد القوى المعادية نفسها أمام شبكة مترابطة من التهديدات يصعب اختراقها أو تعطيلها. وهو ما يعكس التحول النوعي في التفكير العسكري الصيني، من الدفاع عن الشواطئ إلى فرض واقع جديد في المحيط الإقليمي، مع رسالة واضحة بأن هذا المحيط لم يعد ساحة خالصة للولايات المتحدة.
وفي السياق ذاته، حمل العرض العسكري رسالة واضحة حول قدرات الردع الإستراتيجي المرن، عبر إظهار أذرع الثالوث النووي الصيني بأكملها في صورة واحدة لأول مرة. وهذا يضع أي خصم أمام معادلة بالغة التعقيد، إذ إن أي ضربة استباقية تستهدف أحد عناصر القوة النووية الصينية لن تكفي لتحييد قدرتها على الرد، بما يضمن لبكين القدرة على توجيه ضربة انتقامية مؤكدة.
ويشير الخبراء إلى أن الهدف من هذا التطوير هو سد الثغرات بين المنصات النووية المختلفة، بحيث يعوّض كل ذراع نقاط ضعف الآخر؛ فالغواصات تمنح قدرة عالية على البقاء في أعماق البحر حتى إذا استُهدفت القواعد البرية، في حين توفر القاذفات مرونة الحركة وإمكانية إطلاق الضربات من مسافات بعيدة. هذا التكامل يزيد من موثوقية الردع النووي الصيني ويمنحه مرونة أكبر، سواء عبر خيار "الضربة الثانية" من البحر أو الجو إذا استُهدفت الصواريخ البرية، أو عبر الانتشار والمناورة بما يجعل شلّ هذا الثالوث مهمة شبه مستحيلة.
وعليه، لم يكن عرض الثالوث النووي مجرد استعراض تقني، بل رسالة سياسية وإستراتيجية واضحة مفادها أن الصين أصبحت قادرة على حماية مكانتها العالمية عبر مظلة ردع نووي مرنة وموثوق بها.
وفي الوقت ذاته، تُظهر التشكيلات الصينية توجهًا واضحًا للاستفادة من دروس النزاعات الحديثة، وفي مقدمتها حرب أوكرانيا. فقد أدركت بكين أن الطائرات المسيّرة أصبحت سلاحًا حاسمًا ورخيص الكلفة، مما دفعها إلى تطوير الثالوث الحديدي ضد المسيّرات لإسقاطها بكفاءة أكبر. هذا التطوير يعزز قدرة القوات الصينية على حماية وحداتها البرية والبحرية ضد أسراب المسيّرات والصواريخ المعادية، كما يخفض كلفة الدفاع بشكل ملحوظ.
مع ذلك، تبقى القوة العسكرية التي يعكسها العرض الصيني مقيّدة وغير مختبرة، وهي أقرب إلى مارد في قمقم لم يُفتح بعد. صحيح أن بكين عرضت أسلحة متطورة، لكن كثيرًا منها لم يُختبر في ظروف قتال فعلية، وبعضها لا يزال في مرحلة "التجريب أثناء النشر"، مما يثير تساؤلات حول حجم هذه الترسانة؛ هل هي قدرات نخبوية محدودة العدد، أم منظومات تمتلك الكثافة الكافية والتدريب اللازم لتفعيلها على نطاق واسع؟
أما على مستوى التكامل العملياتي، فقد بدا العرض وكأنه يقدّم صورة مثالية عن تناغم القوات البرية والبحرية والجوية والسيبرانية تحت مظلة قيادة موحّدة. غير أن تحويل هذه الصورة إلى واقع يحتاج إلى بنية قيادة وسيطرة متقدمة وقدرة عالية على التنسيق اللحظي. وتاريخيًّا، عانى جيش التحرير الشعبي من البيروقراطية والتسلسل القيادي الصارم، كما أن الصين لم تخض حربًا فعلية منذ عقود، مما يجعل عقائدها القتالية الجديدة تحتاج إلى اختبار ميداني في ساحات مفتوحة.
ويظل البُعد اللوجستي نقطة ضعف غير واضحة المعالم في الاستعراض. فإدارة أسراب المسيّرات والغواصات الآلية والصواريخ تحتاج إلى منظومات إمداد وصيانة واتصالات محصنة ومخزونات ضخمة من الذخائر، وهو ما لا يمكن عرضه على الملأ.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن كل استعراض قوة يدفع الخصوم إلى إعادة التموضع، سواء عبر تعزيز الوجود الأميركي في آسيا وتسريع برامج التسلح، أو عبر دفع قوى إقليمية مثل اليابان إلى زيادة إنفاقها العسكري وتوثيق تحالفاتها. وهكذا، قد يتحوّل العرض إلى عامل تسريع لسباق تسلّح جديد. وليس أدلّ على ذلك من تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كتب ساخرًا على منصة "تروث سوشيال" تعليقًا على لقاء شي وبوتين وكيم: "أنتم تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأميركية".
هكذا يكشف العرض العسكري عن وجه مزدوج؛ رسالة ردع أرادت بكين من خلالها الاحتفاء بذاكرة الماضي وإعلان قوة الحاضر، لكنها في الوقت نفسه أثارت مخاوف من اصطفافات دولية جديدة وتوازنات أكثر اضطرابًا. وبين ما هو مُعلن وما هو مُجرَّب، سيظل المارد الصيني محاطًا بضباب من الشكوك، ينتظر لحظة الاختبار الحقيقي التي ستحدد وحدها وزنه الفعلي في مسرح التاريخ.