أشهرت العديد من الدول الأوروبية مواقفَ ضد استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وطالبت بوقف الحرب وإدخال المساعدات فورًا، رافضة بشدّة سياسة التجويع التي ملأت أخبارها أركان المعمورة.
بريطانيا علّقت مفاوضاتها بشأن التجارة الحرّة مع إسرائيل، وفرضت عقوبات على أفراد وكيانات تشجّع الاستيطان في الضفة الغربية، في 20 أيار/ مايو الجاري، مهدّدة على لسان رئيس وزرائها كير ستارمر ووزير خارجيتها ديفيد لامي بفرض عقوبات جديدة خلال الأيام والأسابيع القادمة إن لم تستجب إسرائيل لدعواتها بإدخال المساعدات فورًا.
الموقف البريطاني جاء بعد بيان مشترك لبريطانيا وفرنسا وكندا شديد اللهجة، مهدّدًا "باتخاذ إجراءات إذا لم توقف إسرائيل هجومها على غزة وترفع القيود على المساعدات"، مؤكّدًا على أنهم "لن يقفوا مكتوفي الأيدي بينما تواصل حكومة نتنياهو أفعالها الفاضحة".
وفي نفس السياق، صوّت الاتحاد الأوروبي في 20 أيار/ مايو، بأغلبية 17 صوتًا من أصل 27 على مراجعة اتّفاقية الشراكة مع إسرائيل، وفقًا لمعايير القانون الدولي، وحقوق الإنسان، ما يفتح الباب على احتمال فرض عقوبات لاحقًا.
هذا، بالإضافة إلى تصديق البرلمان الإسباني على النظر في مقترح حظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل، وإعلان فرنسا على لسان رئيس وزرائها فرانسوا بايرو؛ بأن حركة الاعتراف بدولة فلسطين لن تتوقف، في إشارة إلى عزم فرنسا وبريطانيا وكندا الاعتراف بدولة فلسطين.
صحيح أنّ المواقف الأوروبية جاءت متأخّرة جدًا، وما زالت تتحاشى وصف ما يجري في قطاع غزة بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية وجرائم الحرب، لكنها مهمّة لأنها صادرة عن دول صديقة وراعية لإسرائيل تاريخيًا.
وهي دول لطالما لاحقت كل ناقد لسياسات إسرائيل العنصرية وانتهاكاتها للقوانين الدولية وحقوق الإنسان بذريعة معاداة السامية، ما يشكّل تحولًا في مواقف تلك الدولة وفشلًا للرواية الإسرائيلية المبنية على المظلومية، وتهاوي سرديتها الاحتلالية المبنية على مبدأ الدفاع عن النفس والدفاع عن الحضارة والنور، في مواجهة محور الشر والظلام، فأصبحت إسرائيل اليوم في عيون أصدقائها ورعاتها قاتلة للأطفال، ومرتكبة لانتهاكات مروّعة بحق المدنيين العزّل.
هذا التغيّر في المواقف دفع مصدرًا في الخارجية الإسرائيلية للتعليق على الموضوع لصحيفة يديعوت أحرونوت في 21 أيار/ مايو بالقول؛ "نحن أمام أسوأ وضع مررنا به على الإطلاق والعالم ليس معنا.. نحن أمام تسونامي حقيقي سيزداد سوءًا".
على أهمية المواقف الأوروبية تلك، فإنها لم ترقَ بعد إلى مستوى الفعل والترجمة إلى إجراءات قويّة وعقوبات مؤثّرة اقتصاديًا وعسكريًا على إسرائيل لوقف الإبادة الجماعية وسياسة التجويع المتوحّشة بحق الأطفال والمدنيين العزّل في غزة، وهذا استحقاق سياسي وأخلاقي لا بد منه إذا أرادت الدول الأوروبية أن تستعيد جزءًا من مصداقيتها التي سقطت بدعمها إسرائيل، وبصمتها على جرائمها طوال 19 شهرًا، والتي ارتقت إلى حد الإبادة الجماعية المتوحّشة.
دون اتخاذ الدول الأوروبية عقوبات جادّة وثقيلة توقف جرائم إسرائيل وتوقف عدوانها على غزة؛ ستكون تلك المواقف مجرّد وسيلة مكشوفة لتبرئة الذات أمام الرأي العام الدولي، لأن الجميع يعرف قدرات الاتحاد الأوروبي على الضغط على إسرائيل، فالاتحاد الأوروبي أكبر وأهم شريك لإسرائيل وفقًا لاتفاقية الشراكة الموقعة بينهما منذ العام 1995، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 1 يونيو/ جزيران 2000.
وتعد هذه الاتفاقية مجالًا للتعاون المشترك بينهما في السياسة، والتنمية الاقتصادية، والتبادل التجاري، والتعاون العلمي والتكنولوجي، والثقافة، وتعتبر احترام حقوق الإنسان جزءًا أساسيًا من بنودها.
وفي سياق التفسير لأسباب هذا التحوّل في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل ونتنياهو، يمكن الإشارة إلى عدة مسائل أهمها:
التغيّر في الموقف الأوروبي يوفّر فرصة سانحة للدول العربية، لانتهازها في تفعيل مواقفها ضد إسرائيل المحتلة وحربها المجنونة والعبثية في قطاع غزة.
الدول العربية تملك أوراقًا مهمّة وقوّية يمكن أن تشكل عاملًا حاسمًا لوقف الإبادة الجماعية، ومن ثم رفع الحصار، والبدء بالإعمار وفقًا للخطة العربية.
فكما بدأ الاتحاد الأوروبي بالتهديد والشروع في إجراءات تدريجية، يمكن أن يفعل العرب ذلك وأكثر؛ بوقف التطبيع وقطع العلاقات السياسية ووقف كافة الشراكات الأمنية والاقتصادية إذا لم توقف إسرائيل العدوان وحرب الإبادة على غزة وفتح المعابر لدخول المساعدات فورًا، فبريطانيا ليست أولى بفلسطين من العرب، أهل الجوار والعمق الإستراتيجي لفلسطين.
وإذا كان البعض يخشى من ردة فعل واشنطن، فهذا انتفى الآن قياسًا على صمت واشنطن على المواقف الأوروبية الناقدة والمهدّدة لإسرائيل بالعقوبات في أقرب الآجال، هذا ناهيك عن إعراب واشنطن عن رغبتها في وقف الحرب وإشاعة السلام في المنطقة.
وليس أسوأ على المنطقة من استمرار العدوان على غزة، وتهجير الشعب الفلسطيني، فهذه وصفة باعثة للاضطراب ومهدّدة لأمن المنطقة وسلامتها، ولذلك يصبح التحرّك الآن أكثر جدوى وأقدر على حماية المنطقة العربية من عبث إسرائيل المحتلة التي ترى في الصمت العربي تشجيعًا لها على التمادي والغطرسة، واستمرار العدوان على غزة والضفة الغربية، وسوريا، ولبنان.
الدول العربية تملك الإمكانات والقدرة على ممارسة الضغط المباشر على إسرائيل المحتلة، كما أن تفعيل أوراق قوّتها سيحفّز واشنطن ويدفع الرئيس ترامب أيضًا لحسم موقفه بوقف العدوان على غزة ومنع تهجير الفلسطينيين، وفي ذلك حماية للقضية الفلسطينية وأمن المنطقة وسلامتها من شرّ إسرائيل وغطرستها المنفلتة من عقالها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.