"أنا أباركك. لا تخف أنا معك. ابقَ بخير وابقَ ثابتاً على إيمانك"، كانت هذه آخر كلمات قالها بابا الفاتيكان البابا فرنسيس لجورج أنطون، رئيس لجنة الطوارئ بالكنيسة الكاثوليكية في غزة، في الاتصال الهاتفي الأخير معه قبل نحو أسبوعين.
وكان البابا فرنسيس يعاني من ضعف صحي جراء إصابته بالتهاب رئوي، دخل على إثره المستشفى لنحو شهر. وأعلن الفاتيكان عن وفاته في تمام الساعة السابعة 7:35 من صباح الاثنين.
"كانت كلمات البابا فرنسيس لنا تزيل عن قلوبنا أي شعورٍ بالخوف وتبعث فينا الأمان.. اليوم نحن نشعر بالحزن واليُتم معاً"، هكذا قال أنطون لبي بي سي عربي، وهو يسرد لنا تفاصيل الاتصال الهاتفي اليومي الذي كان يدور بين البابا فرنسيس وأبناء كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في القطاع، بالصوت والصورة.
وطوال الصراع الدائر في غزة، أجرى البابا فرنسيس مكالماتٍ هاتفية يومية مع كاهن رعية القطاع، غابرائيل رومانيللي، من كنيسة العائلة المقدسة - وهي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع.
ويقول القس غابرائيل لبي بي سي إن آخر اتصال جرى بينه وبين البابا فرنسيس كان يوم السبت الماضي، هو يوم الاحتفال بسبت النور لدى المسيحيين.
"اتصل بنا البابا فرنسيس عشية الفصح، قبل القداس الاحتفالي السبت الماضي، شكرنا على خدمتنا وشكرنا على الصلاة من أجله وأعطانا البركة، كان مريضاً ولم تستغرق المكالمة أكثر من دقيقةٍ أو دقيقتين".
ويضيف القس غبرائيل أن خبر الوفاة "جاء بشكلٍ مفاجئٍ وحزين"، ويقول: "لأننا تعودنا أن البابا فرنسيس منذ بداية الحرب، كان يتصل بنا يومياً لمتابعة الأوضاع في غزة والصلاة من أجلنا ومن أجل السلام.. جاء الخبر وكنت أنا والكهنة في كنيسة الرووم الأرثوذوكس نتبادل التهاني بمناسبة عيد الفصح، بالطبع شعرنا بحزنٍ كبير لأننا خسرنا البابا وخسرنا صديقاً في هذه الرعية، هو اهتم بنا حتى النهاية".
وقال الأب غبرائيل إن آخر رسالة للبابا فرنسيس كانت تكراراً لدعوته إلى وقف إطلاق النار في غزة، قائلاً: "وحتى يوم الأحد الماضي، من كنيسة القديس بطرس من الفاتيكان، دعا البابا فرنسيس العالم لوقف الحروب وخصوصاً هذه الحرب على غزة، وذكر بالمعاناة في غزة، ونادى بالعدالة والسلام لكل المنطقة، وكان هذا هو آخر دعاء له، كأنه رمى للعالم رسالة، وأتمنى أن يتلقى رؤساء العالم هذه الرسالة من أجل السلام بين فلسطين وإسرائيل ومن أجل كل سكان غزة والمنطقة كلها".
وكان آخر ظهور علني للبابا فرنسيس الأحد الماضي بمناسبة الاحتفال بعيد القيامة، عندما دخل إلى ساحة القديس بطرس في سيارةٍ مكشوفة ليحيي المصلّين بعد القداس الإلهي.
وكان البابا فرنسيس معروفاً بمواقفه الداعمة لوقف حرب غزة، ففي رسالته الأخيرة في عيد القيامة، جدد بابا الفاتيكان، الذي كان يرأس نحو 1.4 مليار كاثوليكي في العالم، دعوته لوقف إطلاق النار في غزة بشكلٍ فوري، كما وصف الوضع في القطاع بـ"المأساوي والمؤسف".
ورغم الحزن الذي رافق خبر الوفاة، يقول القس غبرائيل: "توفي البابا فرنسيس في عيد القيامة وهو عيد الحياة الجديدة، وهو قيام المسيح من بين الأموات، وهذا يعطينا علامةَ رجاءٍ وأمل، بأنه كرس كل حياته للمسيح والكنيسة، فنحن من جهةٍ حزانى جداً ولكن من جهةٍ أخرى نشعر بالراحة بأنه بعد خدمةٍ طويلةٍ دامت 88 عاماً وصل للحياة الأبدية".
ويؤيد أنطون رأي القس غبرائيل في ذلك، ويتذكر تفاصيل الاتصالات اليومية بين البابا فرنسيس وأعضاء الكنيسة.
يقول أنطون لبي بي سي: "كان البابا فرنسيس عادةً ما يتصل على هاتف الأب غبرائيل وتكون الرعية موجودة في هذه الأثناء، نكون حوالي 450 شخصاً في المكان، ويتحدث معنا عبر سماعة الهاتف المكبرة، ومن خلال خاصية الفيديو نراه ويرانا ونحكي معه بشكلٍ جماعي ويعطينا البركة بشكلٍ جماعي".
ويضيف أنطون بأن البابا فرنسيس كان يهتم بالسؤال عن تفاصيل الحياة اليومية لأبناء الكنيسة، مشيراً إلى أنه استمع إلى صوته للمرة الأخيرة قبل يومين من الوفاة.
"كان دائماً يقول لنا لا تخافوا أنا معكم. يسألنا: ماذا أكلتم؟ هل لديكم ماء؟ هل لديكم ما يكفيكم من الغذاء؟ هل تناولتم الطعام اليوم؟ كيف أولادكم؟ كيف الصحة؟ هل لديكم أدوية؟ يسأل عن كل ناحيةٍ من نواحي الحياة".
وكغيره من المسيحيين في قطاع غزة، يقول أنطون إنه يشعر بحالةٍ من الحزن العميق إثر وفاة البابا فرنسيس الذي يصفه بـ"الأب الاستثنائي والتاريخي".
ويعدّ المسيحيون أقليةً في غزة، إذ لا يتجاوز عددهم 1100 شخصٍ ينتمون إلى طائفتي الروم الأرثوذكس والكاثوليك، أي أقل من 0.05 بالمئة من مجمل السكان، ومعظمهم من الروم الأرثوذكس.
مشاعر الفقد والحزن التي تنتاب أنطون ليست استثناء، فقد عبّر عنها كذلك مسيحيون كُثُر استيقظوا صباح الاثنين على خبر وفاة البابا فرنسيس، عن عمر ناهز 88 عاماً.
يقول موسى عياد، مسيحي نازح في كنيسة القديس بروفوريوس، لبي بي سي إن الخبر "نزل كالصاعقة" على المسيحيين في القطاع.
"خسرناه وهذه خسارة كبيرة لنا. كان داعماً ومسانداً للغزيين بكل قلبه وروحه. قبل وفاته، وعندما علمنا بمرضه، كنا نُصلِّي من أجل شفائه لأنه رجلُ السلام والمحبة"، هكذا قال عياد بصوتٍ حزين لبي بي سي.
ويُضيف: "على الرغم من أنه كان كاثوليكياً، فإنه كان أباً لجميع الأطياف المسيحية. لا يمكن أن ننسى كيف كان يتواصل يومياً بالقس الكاثوليكي في غزة للاطمئنان على أوضاعنا، وكيف كان يُردِّد ويُكرِّر دعوته لوقف إطلاق النار في غزة في كل زيارة يقوم بها لأي بلد".
من جانبه، يقول فيليب جهشان، صحفي مسيحي في غزة، إن فقد البابا فرنسيس هو فقد "للإنسانية كلها لا للفلسطينيين فحسب"، واصفاً إيّاه بالـ"سند الحقيقي" للغزيين.
ويقول جهشان إنه يشعر بحزنٍ عميق يصعب التعبير عنه.
"اذكروه كم كان سنداً لنا، اذكروا أنه البلسمُ الحقيقي، اذكروا اتصاله اليومي، اذكروا تواضعه وهو يتكلّم معنا أثناء الحصار والموت والحرب والمجاعة. إنّه الخسارةُ الحقيقية لنا. إنّه يدُ الرب التي كانت تعمل"، هكذا قال جهشان في رثاء البابا فرنسيس.
ورغم مشاعر الحزن والأسى التي تنتاب الكثير من مسيحيي غزة، يقول بعضهم إن هناك أيضاً حالةً من القلق تمتزج بهذا الحزن.
"نحن لا نعلم من سيكون البابا الجديد، وهل سيهتمّ بنا كما كان البابا فرنسيس يهتمّ بشؤون الغزيين، أم سنُنسى؟" هكذا تساءل موسى إياد، أحدُ المسيحيين النازحين في كنيسة العائلة المقدسة بغزة.
ويُضيف: "نشعر بحزنٍ عميق، ولكن أيضاً نحن قلقون ممّا سيحدث في المستقبل، لا يمكننا الآن غير أن ندعو للبابا فرنسيس بالراحةِ الأبدية وأن يرقدَ في سلام".
ومن المقرّر أن يُصوّت نحو 138 كاردينالاً كاثوليكياً لاختيار خليفةٍ للبابا فرنسيس في انتخاباتٍ – تُعرف باسم "المجمع" – والتي تُعقَد سراً داخل كنيسة سيستين.
وكان آخرُ ظهورٍ علنيٍّ للبابا فرنسيس الأحد، بمناسبة الاحتفال بعيدِ القيامة، عندما دخل إلى ساحة القديس بطرس في سيارةٍ مكشوفة ليحيّي المُصلّين بعد القداس الإلهي.
وكان البابا فرنسيس معروفاً بمواقفه الداعمة للفلسطينيين في غزة.
ففي رسالته الأخيرة في عيد القيامة، جدّد بابا الفاتيكان، الذي كان يرأس نحو 1.4 مليار كاثوليكي في العالم، دعوتَه لوقفٍ فوريٍّ لإطلاق النار في غزة، كما وصف الوضعَ في القطاع بـ"المأساوي والمؤسف".
ودعا أيضاً حركةَ حماس إلى إطلاق سراح الرهائن.
وقبل مكوثِه في المستشفى لخمسةِ أسابيعَ للعلاج، وجّه البابا فرنسيس انتقاداتٍ للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
أما في يناير/كانون الثاني الماضي، فوصف الوضعَ الإنساني في القطاع بـ"الخطير والمخزي".
ووفقاً لمقتطفاتٍ نُشرت في صحيفة "لا ستامبا" الإيطالية – في نوفمبر/تشرين الثاني – لكتابٍ جديدٍ له يحمل اسم "الأمل لا يخيب أبداً. حُجّاج نحو عالمٍ أفضل"، دعا البابا فرنسيس إلى التحقيق في مزاعمَ ما يقوله خبراء بشأن حدوث "إبادة جماعية في غزة".
وفي ديسمبر/كانون الأول، استدعت وزارةُ الخارجية الإسرائيلية سفيرَ الفاتيكان، المطران أدولفو تيتو يلانا، للتعبير عن غضبها إزاء انتقادات البابا اللاذعة لانتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين. وجاءت هذه الخطوة بعد أن اتّهم البابا إسرائيل بارتكاب أعمال "وحشية" بعد قصف المدارس والمستشفيات، قائلاً إن "الأطفال قُصفوا. هذه وحشية، وليست حرباً".