اجتاحت ومضات من تغطيات إعلامية كثيرة سابقة ذهني..
الوجهة: قرية نائية، تلمّسنا طريقنا إليها عبر توجيهات الخارطة عبر الهاتف المحمول.
المشهد: عائلات وأطفال في باحات وفي الشوارع بنظرات فارغة، بوجوه هائمة وبملامح خائفة، أكثر ما تتجلى في حرص أصحابها الشديد على إخفاء وجوههم وهم يتحدثون أمام الكاميرا.
وكأننا نسترجع السنوات الطويلة الماضية التي امتدت لأكثر من عقد كامل، نغطي موجة جديدة من موجات اللجوء السوري الكثيرة إلى لبنان منذ عام 2011، تاريخ بدء الحرب في سوريا.
لكن، هذه المرة، المختلف هو طائفة اللاجئين..
إنهم علويون، عبروا النهر الكبير الذي يفصل بين لبنان وسوريا هروباً من أحداث عنف كانت تضرب الساحل السوري، في أعقاب هجوم نفذته مجموعات علوية مسلحة كانت مقرّبة من نظام الرئيس السابق بشار الأسد.
حتى اللحظة، يُقدّر عدد اللاجئين العلويين الذين هربوا في الأيام الماضية بأكثر من ستة آلاف بحسب محافظ شمال لبنان، توزعوا على عدد من البلدات العلوية الحدودية على الطرف اللبناني من النهر.
"ما إن سمعنا أن مقاتلي الهيئة (هيئة تحرير الشام) سيصِلون إلى قريتنا حتى هربنا مباشرةً باتجاه لبنان"، تقول هبة، أم لأربعة أولاد.
قالت إن جُلّ ما تخشاه هو أن يحصل شيء لأولادها.
هبة كانت تعيش في بلدة حدودية نزحت إليها من ريف حماه قبل أشهر، عقب تسلّم الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، الحكم في سوريا. تقول لنا إن مسلحاً قَتل جارتَها، وإن إطلاق النار في منطقتها كان يومياً. وتحوّل وجود مسلحي "الهيئة" إلى هاجس مخيف لديها.
و"هيئة تحرير الشام" هي تنظيم مسلح حارب نظام حكم الرئيس السوري السابق، بشار الأسد، وكان يقوده أحمد الشرع الذي كان يُعرف آنذاك باسم "أبو محمد الجولاني". وقد حلّ الشرع "الهيئة" عقب تسلّمه السلطة في البلاد.
كثيرون ممن لجأوا في الأيام الأخيرة إلى لبنان اتخذوا قرار اجتياز النهر بعد انتشار روايات وفيديوهات لما وصفوه بفظاعات ارتُكبت بحق علويين مثلهم.
"نحن مستهدَفون لأننا علويون"، تقول هند التي أخبرتنا أن ابنها الصغير بات يسألها إذا ما كانوا سيلقون نفس مصير العلويين الذين قُتلوا وانتشرتْ صورُهم وسُرِدَت رواياتٌ عما يُقال إنه حدث لهم.
"يسألني ابني: ما هو ذنبنا أننا علويون؟ - كيف أجيب على ذلك!"، تضيف هند.
ما سمعتْ عنه هند من ممارسات عنيفة، تقول ديما إنها عايشته بنفسها. ديما من ريف حماه أيضاً. أم لأربعة أولاد، كانت تعمل بالزراعة وتربية المواشي في قريتها. بحسب روايتها فإن مجموعة مسلحة دقّت قبل شهرين، في الساعة الرابعة والنصف فجراً، باب منزلها وعرّف أفراد المجموعة الذين كانوا ملثمين عن أنفسهم، بأنهم "الهيئة".
تقول ديما إنهم في البداية أعلنوا أنهم يفتشون المنازل بحثاً عن أسلحة، لكنهم لم يعثروا على أي شيء، بعد ذلك أخذوا الرجال والأولاد الذكور على حدةٍ وكبّلوهم، وسرقوا كل المال والذهب والغنم تحت تهديد السلاح، ثم قتلوا الرجال والأطفال.
اشتكت ديما ومَن نجا إلى "الهيئة" لكنهم طلبوا منهم أدلة تثبت أن من داهم المنازل وارتكب أعمال السرقة والقتل هم من "الهيئة".
"هل كان يُفترض بي أن أستأذن الذي يطلق الرصاص لألتقط صورة لما ارتكبه وأقدّمها كإثبات"، تقول ديما.
"ابن أخي كان في الحادية عشرة من عمره. قتلوه وقالوا إنه من فلول النظام. والدي كان في الثمانينات من العمر، قالوا عنه إنه من فلول النظام. ولا أحد منهما كان بالنظام. نحن فلاحون ومزارعون".
وتشير عبارة "فلول النظام" إلى مَن كان في صفوف نظام بشار الأسد الذي هرب من سوريا إلى روسيا في الثامن ديسمبر/ كانون الأول، عقب تقدّم مسلحي "هيئة تحرير الشام". وارتكز نظام حكم الأسد على سلطة العائلة العَلوية في بلد يتألف بأغلبية شاسعة من السنّة.
لكن من تحدثنا إليهم من اللاجئين العلويين يقولون إن اعتبارهم محسوبين على النظام فيه تجنٍ بحقهم.
"يعتقدون أننا أثرياء كوننا علويين"، تقول هند بسخط.
"نحن أفقر طائفة. هل تظنين أننا كنا نعيش برفاهية فقط لأن بشار الأسد كان الرئيس؟ على العكس، السُنّة أفضل حالاً منا بكل شيء"، تضيف هند.
وهي النقطة نفسها التي كررتها ديما. "ابحثي عن علوي واحد يملك مصانع أو مصالح في سوريا. شبابنا كانوا يتطوعون في الجيش من أجل راتب آخر الشهر. المناصب العليا كانت جميعها للسُنّة. العلوي يأخذونه ليحارب فقط".
ويَعتبر مَن تحدثنا إليهم أن ما حدث من تسويات لأعضاء الجيش غير المتهمين بأي جريمة، كان بمثابة خديعة من أجل أن يسلّم العلويون أسلحتهم ويقدّموا معلومات عن عناوينهم وتفاصيل عنهم.
"إذا مرّ شاب على حاجز ومعه ما يُسمّى ببطاقة انشقاق من الهيئة، يحسبون أنه كان مع النظام ويقتلونه. وإذا لم تكن لديه تلك البطاقة، يعني ذلك (بالنسبة لهم) أنه لم يوافق على إجراء تسوية - فيقتلونه أيضاً. بالحالتين هو مقتول"، تقول ديما.
لم تتمكن بي بي سي من التأكد من حدوث هذه الممارسات التي رُويت لنا ولا من حجمها.
وكان الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، قد شكّل لجنة تقصي حقائق مؤلفة من خبراء قانونيين للتحقيق بشأن ما جرى في تلك البلدات و"التحقق من المشاهدات التي رأيناها، سواء الفيديوهات أو القتل العشوائي"، بحسب قوله.
ويُفترض بهذه اللجنة تحديد المسؤوليات، وسط تضارب الأنباء عن حجم القتلى المدنيين بالمقارنة مع المقاتلين المسلحين من العلويين، وعن هوية مرتكبي التجاوزات بحق المدنيين.
كما أعلن الشرع عن إرساله لجنة للحفاظ على السلم الأهلي وصفها أنها بمثابة المصالحة بين الناس "حتى نوقف نزيف وحمام الدم"، مشيراً إلى أنها مؤلفة ممن وصفهم بالعقلاء من الطائفتين الكبيرتين في تلك المناطق".
لكن هذه الخطوة لا تبدو كافية لطمأنة اللاجئين العلويين الذين يصف أحدهم الوضع في سوريا بأنه "غابة".
فبينما يذهب البعض إلى حدّ المطالبة بحماية دولية للعلويين والأقليات في سوريا، يتحدث آخرون عن ضرورة أن تكون هناك ضمانات موثوقة من أجل أن يعودوا.
"أنا لن أعود إلا في حال بات هناك رئيس نظامي وجيش نظامي بوجوه غير مقنّعة. فحالياً، الجميع يملك بطاقة "الهيئة" ويحمل بندقية روسية"، تقول ديما.
لا بد من الإشارة إلى أن أسماء جميع من تحدثنا إليهم قد جرى تغييرها بناء على طلبهم، كونهم يخشون أعمالاً انتقامية.