آخر الأخبار

من تندوف إلى العيون: حكايات من وراء الجدار الرملي

شارك الخبر
مصدر الصورة

في خطابه السنوي أمام البرلمان، أطلق الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، تصريحات بارزة تناولت مجموعة من القضايا الحساسة، أبرزها موقف الجزائر من قضية الصحراء الغربية.

وأكد تبون أن موقف بلاده ثابت وغير قابل للتغيير، مشددًا على "حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره وفقًا لقرارات الشرعية الدولية".

واعتبر تبون أن خطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب هي "فكرة فرنسية الأصل"، موضحًا أنها لم تُصمم في الرباط أو مراكش، بل وُلدت في باريس.

وتأتي هذه التصريحات في إطار رؤية الجزائر للصحراء الغربية كقضية تصفية استعمار، وهي مدرجة على أجندة لجان الأمم المتحدة المختصة بهذا الشأن.

فما خطة الحكم الذاتي؟ وكيف تبدو حياة الصحراويين؟ وما مدى تنوع مواقفهم تجاه مستقبل الإقليم؟

مصدر الصورة

وسط مخيمات اللاجئين في تندوف، تجلس "تسلم عبد الله" على سجادة تقليدية مفروشة على الأرض الرملية. وبجانبها، يلهو حفيدها الصغير، الذي تحكي له عن أرض الصحراء الغربية التي اضطرت لتركها منذ عقود.

ورغم طول المدة، تتمسك السيدة السبعينية بحلم تحقيق المصير الذي لم يفارقها منذ أن غادرت مسقط رأسها في مدينة المحبس في السبعينيات معتقدة أنها ستعود في اليوم التالي.

تتشابه قصة تسلم مع قصص مئات الصحراويين الآخرين ممن لجأوا إلى مخيمات في ولاية تندوف بالجزائر منذ عام 1975 نتيجة النزاع بين جبهة البوليساريو والمغرب حول الصحراء الغربية.

ويعيش حاليًا ثلاثة أجيال من اللاجئين الصحراويين في مخيمات تحمل أسماء المدن التي نزحوا منها، مثل الداخلة والسمارة والعيون وأوسرد وبوجدور، ويأمل أغلبهم بالعودة إلى أرض أجدادهم.

مصدر الصورة

وفي قلب مدينة العيون، عاصمة الصحراء الغربية، حيث تعيش عائشة الشيخ ماء العينين تسيرالحياة بشكل مختلف.

تؤمن الشابة الصحراوية بقوة ارتباط الصحراء الغربية بالمغرب، وترى في مشاريع البنية التحتية التي تشيدها الدولة هناك رمزاً لهذا الارتباط.

ولدت عائشة في مخيمات تندوف لأبوين تقول إنهما أجبرا على الانتقال للمخيمات مع اندلاع الصراع، غير أن الأسرة تمكنت من العودة إلى مدينة العيون عام 1990، وهي عودة تصفها عائشة بأنها نقطة تحول إيجابية في حياتها.

ولم تكن الحياة سهلة في بداياتها بالعيون أيضًا. وعن ذلك تقول عائشة: " لقد انقطعت عن الدراسة بسبب الظروف العائلية والعادات الاجتماعية التي كانت تقيد سفر المرأة للتعلم. لكنني عدت في الآونة الأخيرة لاستكمال تعليمي في مجال العلوم الإنسانية، مستفيدة من التطور الذي شهدته المنطقة، مع تشييد الدولة المغربية جامعات ومعاهد عليا في المنطقة".

وترى عائشة أن الحل الأمثل لقضية الصحراء يكمن في مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، إذ تعتقد أن هذا النموذج يحقق توازناً بين الحفاظ على الهوية الثقافية الصحراوية وضمان الاستقرار والتنمية.

وتقول الشابة الصحراوية إن "الدعوات للانفصال ما هي إلا نتاج أجندات خارجية تخدم مصالح شخصية ولا تمت بصلة لواقع أبناء الصحراء" قبل أن تكمل حديثها بالاشارة إلى أن "الصحراء لم تكن أرضا سائبة، وبأن الروابط التاريخية بين القبائل الصحراوية والدولة العلوية متجذرة عبر الزمن".


* "مكاسب اقتصادية على حساب حقوق الشعب الصحراوي"- صحيفة لومانيتي الفرنسية عن زيارة ماكرون للمغرب
مصدر الصورة

يصف بعضهم قضية الصحراء الغربية بأنها من أقدم النزاعات في إفريقيا، إذ تقترب من إكمال عقدها الخامس.

ويعود الفصل الحديث من تاريخ النزاع إلى الحقبة الاستعمارية، حيث فرضت إسبانيا سيطرتها على المنطقة في عام 1884، واستمرت هذه السيطرة حتى منتصف القرن العشرين. ومع تصاعد نشاط حركات التحرر الوطنية المطالبة بالاستقلال، برزت تعقيدات جديدة حول الصراع على السيادة في هذه المنطقة.

تدرج الأمم المتحدة الصحراء الغربية ضمن قائمة "الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي"، أي أنها إقليم " لم يُكمل مسار استقلاله بعدُ، ولم يحقق سكانه الإدارة الذاتية الكاملة".

أما المغرب فيؤكد على أن الصحراء الغربية جزء لا يتجزأ من أراضيه، ولا يمانع في حصول الإقليم على حكم ذاتي تحت سيادته، في حين تطالب جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، بإقامة "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" وإجراء استفتاء لتقرير المصير.

ويسيطر المغرب على 80% من مساحة الصحراء ويديرها بصفتها أقاليم جنوبية له، وتعد مدينة العيون أكبر مدنها حيث يتمركز فيها غالبية السكان. أما الـ20% المتبقية من مساحتها فتشكل منطقة عازلة وتتميز بكثافة سكنية منخفضة.

مصدر الصورة

ومع اشتداد المعارك في الثمانينيات، لجأ المغاربة إلى بناء جدار رملي وسط الصحراء. يبلغ طوله حوالي 2700 كم. بينما يصل ارتفاعه إلى أكثر من أربعة أمتار. وعلى طول جانبيه، تم زرع مئات الآلاف من الألغام، وهو ما يجعله أكبر حقل ألغام في العالم.

يطلق المغرب على الجدار اسم "الحائط الدفاعي"، بينما يصفه صحراويون بـ"جدار الذل والعار".


* لماذا اختارت قبائل الصحراء الغربية السكن هناك؟
* الصحراء الغربية: حقائق عن أحد أطول النزاعات في القارة الأفريقية

جدران من الرمال

"في كل مرة كنت أقف فيها بالقرب من السواتر الترابية، كنت أشعر وكأنني أشتم رائحة إخوتي الذين فرقتهم الحرب عني"، هكذا تصف زغولة بنت مسعود مشاعرها وهي تتذكر زياراتها إلى الجدار الفاصل بين المناطق التي يسيطر عليها المغرب وتلك التي تسيطر عليها جبهة البوليساريو.

كانت هذه الزيارات تمثل لزغولة نافذة على عالم بقيت ذكرياته محفورة في وجدانها. غير أن تلك الزيارات الرمزية توقفت بعد تجدد المناوشات العسكرية عام 2021.

في عام 1976 اضطرت عائلة زغولة لمغادرة منزلها في بوجدور إلى مخميات تندوف.

وتروي زغولة لبي بي سي تفاصيل تلك الفترة قائلة: " زحفنا بين الرمال لأيام وليالٍ، و اختبأنا في أكواخ هرباً من القصف المستمر وطائرات الاستطلاع. "

تتذكر زغولة جيداً وجوه بعض النساء الحوامل اللواتي تعرضن للإجهاض نتيجة نوبات الهلع الشديدة، وكيف باغت المخاض بعضهن وسط تلك الظروف القاسية.

وتضيف: "أتذكر مشهداً مؤلماً لسيدة بُترت رجلها جراء القصف العشوائي ولم يتمكن أحد من معرفة مصيرها. فمع بداية تحليق الطائرات، عمّت الفوضى وركض كل منا بحثاً عن ملاذ آمن. تشتتنا في كل مكان؛ انطلق إخوتي الذكور في اتجاه، بينما سرت مع والدي وبقية إخوتي في طريق آخر، وتفرقت السبل بنا بشكل مؤلم".

ولسنوات طويلة، لم تعرف العائلة شيئا عن ابنيها اللذين انفصلا عنها، إلى أن تبين لاحقاً أن السلطات المغربية قد أعادتهما إلى مدينة بوجدور. في هذه الأثناء، استقرت زغولة في مخيمات تندوف مع والدتها وبقية إخوتها، حيث انخرطت في أنشطة سياسية تهدف إلى توعية أبناء المخيم بالقضية الصحراوية.

والد زغولة، الذي كان منخرطاً في جبهة البوليساريو، ساعدهم في العبور إلى تندوف، ثم عاد مباشرة إلى ساحات القتال ولم تره مرة أخرى.

ما يعزيها أن والدتها تمكنت في آخر أيامها من رؤية أحد ابنيها ضمن رحلات أممية للم شمل العائلات الصحراوية عام 2005. لكن حتى تلك الرحلات لم تستمر ولم ترَ زغولة شقيقها سوى مرة واحدة ولبضعة أيام.

اليوم، تعيش زغولة مع عائلتها الصغيرة، بما في ذلك ابنتها خديجة، وهي معلمة في مدارس المخيمات. رغم صعوبات الحياة، ترفض خديجة العودة إلى أرض أجدادها قبل إجراء استفتاء لتقرير المصير وتفخر بحمل بطاقة الهوية الصحراوية. وتختتم كلامها قائلة: "أحترم وجهات النظر المختلفة، لكن العودة تعني الاعتراف بسيادة المغرب والتخلي عن القضية، بل تعد خيانة للوطن."

من داعم للبوليساريو إلى مؤيد للمقترح المغربي

على النقيض، ظل محمد سالم عبد الفتاح يتقلب يسرة ويمنة في عوالم الأفكار قبل أن يحسم قراره.

وُلد الشاب الصحرواي في مدينة العيون. وكان اهتمامه منذ الصغر مُنصبًّا على الدراسة، شأنه شأن معظم أقرانه.

مع بلوغه سن المراهقة، بدأ سالم يستشعر التحولات التي شهدها المغرب، خاصة مع تولي الملك محمد السادس العرش عام 1999. وهي تغييرات كان لها تأثير عميق على مسار حياته.

في تلك الفترة، كانت دعايات البوليساريو تتردد بقوة داخل مدن الصحراء كما يذكر سالم في حديثه معنا قائلاً: "مرت البلاد بمرحلة انتقالية بعد عقود من الانغلاق عُرفت بسنوات الرصاص، وهو ما فتح النقاش حول قضايا سياسية كانت غائبة أو محظورة من قبل، وأبرزها قضية الصحراء".

ويضيف قائلاً: "استفادت البوليساريو من هذا الانفتاح السياسي وأطلقت دعاية قوية وظفت فيها الفن والشعر، واستخدمت لغة قريبة من هموم الناس، وركزت على قضايا اجتماعية هامة مثل البطالة والتهميش الاقتصادي".

انجذب سالم لذلك الخطاب الذي دفع به مبكرًا نحو دعم جبهة البوليساريو، ليصبح ناشطًا في صفوفها ومروجًا لأفكارها عبر نشاطه ككاتب إعلامي ضمن ما يسميه بـ "بوليساريو الداخل" حتى قرر الانتقال إلى مخيمات تندوف في 2004.


* 8 معلومات مهمة عن البوليساريو وقضية الصحراء الغربية

بمجرد وصوله إلى المخيمات، التحق بوزارة إعلام البوليساريو وتولى إعداد العديد من البرامج الإذاعية.

واستقر سالم في مخيم الرابوني، الذي يعد المركز الإداري لجبهة البوليساريو، لكنه كان يتردد أيضًا على مخيمات أخرى لزيارة أقاربه الذين التحقوا بالمخيمات في وقت مبكر من عمر الصراع .

لكن الواقع الذي عاشه في المخيمات ناقض كل توقعاته.

إذ يقول " كانت الرقابة الشديدة، والفوارق الطبقية بين القيادات وبقية السكان واضحة للعيان. بدأت أكتشف أن الشعارات الثورية التي تروج لها البوليساريو ضد الرجعية والقبلية لا تتماشى مع ممارساتها التي كانت رجعية وتقليدية واستخدمت العصبيات السياسية والشوفينية لتحقيق مصالحها."

مدفوعًا بالأمل في التغيير، انخرط سالم في حركات داخلية ناقدة للوضع القائم. ورغم أن انتقاداته كانت محدودة، إلا أنها وُوجهت بشراسة، على حد تعبيره.

في عام 2015، عاد سالم إلى المغرب بعد أن "أدرك عجز البوليساريو عن الإصلاح"، إذ يقول "عدت وأنا أحمل صراعًا داخليًا عميقًا بين قناعاتي السابقة ومحاولات لإيجاد حلول جديدة".

في النهاية، اقتنع بأن الحل في إطار السيادة المغربية، مؤكداً أن قراره لم يكن استسلاماً بل نتيجة مراجعات فكرية.

ويقول: " توصلت إلى قناعة بأن مشكلة الأقاليم الجنوبية أعمق من مجرد قضية البوليساريو، وأن المجتمع هناك، بسبب عوامل تاريخية، ربما ليس مؤهلاً للحكم الذاتي الكامل ولا يمكنه الانفصال عن الدولة المغربية. فلم يُتح لهذا المجتمع عبر التاريخ فرصة طبيعية للانتقال من البداوة إلى المدنية، بفعل الاستعمار الإسباني الذي كرّس الفاشية ولم يشجع على بناء مؤسسات حقيقية".

"أزور والدتي سرا"

تختلف رؤية وتجربة الناشطة ليلى الليلي عن تجربة محمد، رغم أنها تقيم في الأراضي الخاضعة لسيطرة المغرب، إلا أنها تصفها بـ "المناطق المحتلة".

وُلدت ليلى في مدينة العيون ولم تغادرها إلا في مناسبات قليلة، لكنها بقيت مرتبطة عاطفيًا بالمخيمات منذ نعومة أظافرها. وقد أتيحت لها فرصة زيارتها عدة مرات.

تبدأ ليلى حديثها معنا قائلة: "المخيمات هي رمز للصمود والمقاومة. رغم أنها مناطق لجوء مؤقتة ولا يمكن مقارنتها بالمدن، إلا أنها تمنح الصحراويين الحرية والكرامة، حيث يمكنهم التعبير عن آرائهم والتنقل بحرية دون خوف".

وتتابع: " رغم التحسينات المظهرية في المدن والبنية التحتية، فإن الصحراويين الأصليين لا يزالون يعانون من البطالة والقمع والتهميش، ولم يتغير الكثير منذ أحداث مخيم "أكديم إزيك" الاحتجاجية في 2010. كل شخص يجاهر بمناصرة خيار الاستقلال يتعرض للمتابعة. حاولت مثلا كراء محل تجاري لإعالة أسرتي، لكن أصحاب المحلات حُذروا من التعامل معي، فاضطررت لترك العمل".

تقول ليلى إنها تعرضت للإيقاف عدة مرات خلال مراحل مختلفة من حياتها، وإنه في عام 2015، بسبب ارتدائها زيًا يحمل ألوان العلم الصحراوي، تعرضت للضرب. والمضايقات لا تزال تلاحقها لحد الآن، بحسب قولها.

ورغم ذلك تصرّ على مطلب الاستقلال الكامل وتقول: " ما نريده هو السيادة على أرضنا ونحن قادرون على إدارة أمورنا بأنفسنا وأعتقد أن البوليساريو هي الوحيدة القادرة على تمثيل كل الصحراويين المؤمنين بإقامة دولة مستقلة".

وبرأيها، لم تنجح المقترحات الأممية في تقديم حل جدي للشعب الصحراوي. وتضيف: " أما الحل الذي يطرحه المغرب فهو مرفوض بالنسبة لفئة واسعة منا وما هو إلا محاولة للالتفاف على نضالاتنا".

قصة ليلى تحمل أبعادًا إضافية من التعقيد، حيث أثرت ظروف النزاع على طفولتها وعلاقاتها العائلية.

ففي السبعينيات، وبعد طلاق والديها، انتقلت والدتها مع زوجها الجديد إلى فرنسا، تاركة ليلى في رعاية جدتها وهي طفلة لم تتجاوز العامين، قبل أن تعود لرؤيتها عام 1978، ثم انتقلت إلى مخيمات تندوف. ولم يلتئم شمل ليلى بوالدتها بشكل كامل إلا في عام 2002، عندما عادت الأخيرة إلى العيون لزيارة جدتها المريضة.

ورغم أنهما الآن تعيشان في نفس المدينة، تقول ليلى "لا أستطيع رؤية والدتي بأريحية، وأزورُها سرًا متخفّية تحت ستار الليل حتى لا أثقل عليها بمشاكلي أو خشية أن يطالها شيء مما يطالني. وفي النهاية، أتمنى أن تنتهي هذه الوضعية ونجد حلاً لقضية اللاجئين".

لكن هذه الوضعية من المرجح أن تطول، خاصة بعد اعتراف الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا رسميًا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

في عام 2020، اعترفت إدارة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية مقابل تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، مما عزز موقف المغرب دبلوماسيًا. ومع ذلك، تستمر جبهة البوليساريو، بدعم جزائري، في رفض هذه الخطوة والمطالبة باستفتاء على استقلال الإقليم، مما يعرقل حل النزاع.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك الخبر

أخبار ذات صلة



إقرأ أيضا