في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
"انتصارنا هو انتصار لكم، وانتصاركم هو انتصار لنا، هذه معركة الحضارة اليهودية المسيحية ضد البربرية"
في يوم الخميس 30 مايو/أيار الماضي، خرج بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية المتهم حاليا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حسب المحكمة الجنائية الدولية، في لقاء متلفز على شاشة القناة الفرنسية الأولى "تي إف 1" وأختها الصغرى "إل سي إي". كان اللقاء أشبه ما يكون بخطاب جماهيري وجهه بيبي للشعب الفرنسي على مدار 30 دقيقة غرد خلالها منفردا، في أول خروج إعلامي له على منبر فرنسي منذ أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
جاء اللقاء في توقيت حساس، بعد أن صار اسم نتنياهو الأكثر ترددا في أروقة المحكمة الجنائية الدولية، قبل أن تصدر مذكرة اعتقال بحقه من المحكمة بعد ذلك بأشهر.
خلال اللقاء، لعب نتنياهو ببراعة على الحبال التي يعرفها جيدا، وفي مقدمتها خطر "الإرهاب الإسلامي الذي يهدد فرنسا وإسرائيل معا" وفق زعمه، كما أشار إلى أن التصعيد القانوني ضده لا يستهدف شخصه، ولكنه يستهدف دولة إسرائيل، مرددا قِطَعا من الدعاية الإعلامية الإسرائيلية الشهيرة حول حق الدولة اليهودية في الدفاع عن نفسها ضد خصومها الذين يحيطون بها.
تحدث "بيبي" أمام الفرنسيين أيضا عن الجهود المزعومة التي بذلتها حكومته من أجل إيصال المساعدات للشعب الغزي المنكوب برا وبحرا وجوا، مدعيا أنه يعتبر مقتل مدني فلسطيني واحد أمرا مريعا، وأن الجيش الإسرائيلي يحرص على حياة المدنيين الفلسطينيين حرصه على حياة جنوده.
وبالتزامن، كان طرفا من الرد على نتنياهو حاضرا في نفس اللحظة التي ألقى فيها خطابه، عندما تجمع المئات من المتظاهرين أمام مقر قناة "تي إف 1" للاحتجاج على إعطاء الكلمة لرجل يُشهد له بإراقة الدماء بلا رادع لتحقيق أهدافه السياسية وضمان البقاء في السلطة، كما يتهمه سياسيون في إسرائيل نفسها.
في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، جاء النبأ الذي لم يتوقع أكثر المتفائلين أن يصدر يوما ما: مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق "بنيامين نتنياهو" ووزير دفاعه آنذاك "يوآف غالانت" بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، في علامة على أن الجريمة الإسرائيلية باتت أكبر وأكثر بشاعة من أن تتجاهلها أعين العالم رغم تواطؤ قواه الكبرى على دعم الإبادة الصهيونية في غزة على مدار أكثر من عام.
كانت فرنسا إحدى تلك الدول التي دعمت حرب نتنياهو الإجرامية منذ اليوم الأول، ليس لأن الرئيس الفرنسي ماكرون يحب نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين (ربما يكون العكس أقرب للصحة)، لكن لأن أوروبا قاطبة ترى دعم إسرائيل قدرا مقدورا.
غير أن حكم الجنائية وضع باريس في موقف محرج، حيث بات يتعين عليها الالتزام بقرار المحكمة بحكم عضويتها في نظام روما الأساسي، ما دفعها للإعلان على استحياء في بلاغ لوزارة خارجيتها دعمها للقانون الدولي، دون أن تؤكد بشكل واضح وصريح في أنها ستقدم على اعتقال نتنياهو أو غالانت إن هما وطئا ترابها، وهو موقف تراجعت عنه باريس لاحقا مؤكدة بشكل لا لبس فيه أن نتنياهو يتمتع بالحصانة (من الاعتقال) نظرا لأن إسرائيل نفسها ليست عضوا في نظام روما الأساسي.
أيام قليلة فصلت بين الموقفين الفرنسيين، لكن مياها كثيرة جرت خلالها. كان موقف فرنسا الأول، المتردد بين التزامها النظري بالقانون الدولي والتعقيدات العملية المرتبطة بهذا الالتزام، بمثابة تجلٍّ لمقاربة تعتمدها باريس منذ مدة، تقوم على اتباع سياسة "شد الحبال" مع تل أبيب، وتعني تقديم الدعم مع "بعض التحفظات" التي تتجاهلها إسرائيل غالبا، وهو النمط الذي ينعكس أيضا على العلاقة الشخصية بين إيمانويل ماكرون وبنيامين نتنياهو، والتي يمكن وصفها بأنها "مرتبكة" في أدنى الأحوال.
ففي يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول، خرج ماكرون عن بروده المعتاد حينما انتقد نتنياهو قائلا إن "الدفاع عن الحضارة لا يكون بنشر الهمجية في كل مكان"، وذلك خلال مؤتمر دولي هدفه المعلن هو دعم سيادة الشعب اللبناني بالتزامن مع الحرب الإسرائيلية، وقد جاءت تعليقات ماكرون في معرض رده على تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي وصف خلالها الحرب على غزة ولبنان بأنها "حرب الحضارة ضد الهمجية".
لم تكن تلك التصريحات سوى حلقة في سلسلة من الانتقادات "الماكرونية" المبطنة والمعلنة ضد نتنياهو، بدأت بالتلويح بفرض حظر على توريد الأسلحة (المستخدمة في الحرب) إلى إسرائيل، ووصلت ذروتها بانتقاد عدم التزام إسرائيل بمقررات الأمم المتحدة، رغم أن الدولة العبرية تأسست بقرار من الأمم المتحدة (إشارة إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947)، في تعريض نادر لقائد غربي بالطريقة التي تأسست بها الدولة الصهيونية على أرض فلسطين، استدعى ردا حادا من نتنياهو زعم فيه أن إسرائيل تأسست "بدماء مقاتليها الأبطال في حرب الاستقلال ومنهم ناجون من المحرقة التي شارك فيها نظام فيشي في فرنسا".
على كل حال، كان مؤتمر دعم لبنان أقرب إلى محاولة فرنسية يائسة لاستعادة دورها في الصراع المحتدم حاليا في منطقة الشرق الأوسط، بيد أنه، ولسوء حظ الفرنسيين أو لربما لسوء عملهم، أخفق في تحقيق أهدافه، حيث لم يحضر من الدول الـ54 المدعوين إلى باريس إلا ممثل حكومي واحد، وكان على رأس قائمة الغائبين "أنتوني بلينكن"، وزير الخارجية الأميركي الذي فضّل الذهاب إلى الدوحة بحثا عن اختراق في المفاوضات بين إسرائيل وبين حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
حاولت باريس التقليل من شأن عدم حضور بلينكن، مؤكدة أن السبب هو الأجندة المزدحمة لوزير الخارجية الأميركي، فيما تشير تقارير صحفية إلى أن عدم حضور السفير الأول لأميركا يأتي لعدم رغبة واشنطن في تزكية تحركات باريس، في الوقت الذي تزعم فيه الدوائر المحيطة بماكرون أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تحرص على التواصل المباشر مع جميع الأطراف للوصول إلى اتفاق حقيقي وواقعي.
منذ وصوله إلى كرسي الرئاسة في عام 2017، حاول ماكرون العودة ببلاده إلى الشرق الأوسط بعد انحسار دورها أمام تغول الأميركيين والبريطانيين وحتى الروس والصينيين، حنينا إلى تلك الأيام التي كانت فرنسا تبصم فيها على حضور في القاهرة ودمشق وبيروت. لذلك حاول الرئيس الفرنسي أكثر من مرة التحليق فوق المشكلات الداخلية التي يعاني منها لبنان، البلد الشرق أوسطي الأقرب لقلب فرنسا، والذي استُقبل فيه ساكن الإليزيه قبل أعوام استقبال الفاتحين من طرف شريحة من الشعب كفرت بسياسييها تماما، وباتت تنتظر المدد من أي شخص، وإن كان المحتل القديم.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضاعف ماكرون من تحركاته الدبلوماسية، وحاول خطف الأضواء حينما تطوع لاقتراح إنشاء "تحالف دولي ضد حماس"، يشبه التحالف الذي تم تشكيله لمحاربة تنظيم الدولة، بعدها أعلن عن عدة خطوات أخرى تأرجحت يمينا ويسارا بغير هدى، منها إرسال المساعدات الطبية لغزة، والعمل على الاعتراف بدولة فلسطينية، ثم محاولة التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار لمدة 21 يوما بعد اشتعال جبهة لبنان، ثم مؤتمر لجمع التبرعات، لكن كل هذه المحاولات لم تلقَ صدى واسعا، ولم تسعفه في الحصول على ما يريد، وأظهرت أن باريس فقدت الكثير من قوتها الخارجية، حتى في معاقلها التقليدية.
لقد مثّل طوفان الأقصى على وجه الخصوص تحديا غير مسبوق لسياسة فرنسا. فمنذ انطلاقة الطوفان، حرصت باريس على إظهار كافة ملامح الدعم الرسمي والشعبي للاحتلال الإسرائيلي، وتحزبت وسائل إعلامها لرثاء الإسرائيليين وشيطنة الفلسطينيين. لقد كان الجو العام في فرنسا بعد السابع من أكتوبر شبيها حد التطابق بما عاشه العالم بعد 11 سبتمبر، حيث هيمن عليه صوت واحد هو صوت السردية الصهيونية التي جرّمت أي تعاطف مع غزة وسكانها وليس مع المقاومة الفلسطينية فقط.
هذا "التصهين" في السردية السياسية سرعان ما بدأت تظهر مثالبه بعد تكشف الحقائق الدموية للحرب الإسرائيلية تباعا إلى درجة لم يعد من الممكن السكوت عنها، هذه الدماء يبدو أنها أصابت عين السياسة الفرنسية بالضباب، إلى درجة أنه لا أحد بات يعرف ما الذي يفكر فيه إيمانويل ماكرون وفريقه، المحاصر بين اليسار الذي كان يرى الرئيس ضليعا في جرائم الإبادة التي ترتكبها تل أبيب، وبين اليمين الكلاسيكي، وأقصى اليمين الذي واصل اعتناق السردية الصهيونية على قاعدة العداء المشترك للعرب والمسلمين، والذي بات يرى أن ماكرون لا يدعم إسرائيل بما يكفي، بل إنه ربما يكون متعاطفا مع الفلسطينيين.
في زيارة له لكندا في سبتمبر/أيلول الماضي، كانت صافرات الاستهجان تنتظر الرئيس الفرنسي من طرف مؤيدين للقضية الفلسطينية، حينها سيلتفت ماكرون نحو أحد الصحفيين قائلا له: "الناس يهاجمونني كثيرا، لكنهم لا يعرفون أبدا كيف أقاتل بكل ما أوتيت من قوة حتى تتحسن الأمور".
قبلها في مارس/آذار 2024، ولكن في مرسيليا الفرنسية هذه المرة، كان المشهد أكثر رومانسية حينما توجهت سيدة له بالكلام متوسلة إليه بأن يفعل أي شيء لحماية الأطفال من الموت الذي يواجهونه في فلسطين، ليجيبها بأنه سيفعل "كل ما يمكن القيام به" من أجل الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وما بين المشهدين، يستغرب ماكرون والمقربون منه من عدم الاعتراف بالدور الكبير الذي يقوم به الرئيس الفرنسي لوقف الحرب في غزة وفي لبنان، وفق ما أسرّ أحد المقربين منه لموقع القناة الأولى الفرنسية.
الخلاصة هي أنه لا أحد فهم تماما أو رضي عن سياسة ماكرون تجاه حرب غزة، بمن فيهم إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. على العكس تماما، اختار نتنياهو ماكرون ليكون الدمية التي يوجه إليه ضربات الاستياء من عدم الحصول على ما يكفي من الدعم الغربي لحربه، وقد تجلى ذل ....