تتخذ المواجهة غير المباشرة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا منحى جديدا عبر "جبهة الأصول المجمدة"، بموازاة الحرب الهجينة واختراقات المسيرات، وهو منحى محفوف بمخاطر سياسية وقانونية من شأنها أن تلقي بتداعيات محتملة على وحدة التكتل الأوروبي وأن تفجر في الوقت نفسه ردود فعل مفتوحة من الجانب الروسي.
بدأت قصة الأصول الروسية المجمدة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط عام 2022، حيث قام الاتحاد الأوروبي بتجميد نحو 200 مليار يورو من أصول البنك المركزي الروسي.
وتنوي المفوضية الأوروبية الآن عبر مقترح طرحته في قمة أكتوبر/تشرين الأول الماضي في بروكسل ، استخدام هذه الأصول لمنح قرض بقيمة 140 مليار يورو يصرف تدريجيا لكييف لتلبية احتياجاتها العسكرية والاقتصادية، ولكن بشروط محددة.
تبدو الخطة المعروضة حتى الآن فضفاضة وغير مفصلة ولكنها تنطوي على أخطار، على اعتبار أن الغالبية العظمى من الأموال الروسية في مؤسسة الإيداع الدولية "يوروكلير" التي ستكون مطالبة بتحويل السيول المولدة عنها إلى المفوضية الأوروبية.
وفقا للخطة الأوروبية المؤقتة، لن يطلب من كييف سداد القرض إلا إذا وافقت موسكو على تعويض الأضرار الناجمة عن الحرب، ومن هنا جاء اسم "قرض التعويضات". وبعد ذلك، ستسدد المفوضية المبلغ إلى "يوروكلير"، الذي ستحوله بدورها إلى روسيا .
وفي حين يأمل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا التوصل إلى تحديد جدول زمني قصير قبل عيد الميلاد للحسم في كيفية استغلال الأصول الروسية، فإن الخطة برمتها لا تزال رهينة الموقف البلجيكي التي توجد على أراضيها مؤسسة "يوروكلير"، إذ تخشى بروكسل الانزلاق نحو مواجهة الضغط الروسي وتبعات ذلك قانونيا وأمنيا.
في تحليل الباحث الروسي ديمتري بريجع مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، للجزيرة نت، فإن المقترح الأوروبي لا يعد فقط بمنزلة إمداد بالأكسجين المالي لأوكرانيا وإنما أيضا تحولا من إدارة الأزمة الى إدارة صراع طويل الأمد ضد روسيا، علاوة على نسف مفاهيم الرأسمالية والملكية الخاصة (المالية) التي أسسها الغرب نفسه بعد الحرب العالمية الثانية .
ويعتقد ديمتري أن المقترح من شأنه أن يسبب ضررين مباشرين لروسيا:
يتمثل قلق بلجيكا الرئيسي في رد روسيا إذا ما طالبت بإعادة أصولها عند رفع العقوبات عنها. وتستحضر هذه الخطوة موقف اليابان التي تحتفظ باحتياطيات بقيمة 50 مليار يورو من البنك المركزي الروسي، لكنها استبعدت استخدامها لمساعدة أوكرانيا.
كما تستحضر أيضا تحذيرات سابقة أطلقتها رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، بضرورة ضمان السيولة اللازمة إذا ما طالبت روسيا بالسداد عند رفع العقوبات.
لذلك تطالب بروكسل باقي العواصم الأوروبية بتقاسم المخاطر وبضمانات قانونية، وأيضا بضم الأصول السيادية الروسية المجمدة في دوائر قضائية أوروبية أخرى إلى صندوق مشترك.
ومن أجل تأمين ضمانات أوسع، يدعو رئيس الوزراء البلجيكي الاتحاد الأوروبي إلى إشراك حلفاء آخرين من مجموعة السبع في الخطة، وهو مقترح جلب اهتمام المملكة المتحدة وكندا ولكن قابلته اليابان التي تملك أصولا سيادية روسية بتحفظ.
ومن شأن المقترح أن يتحول في نهاية المطاف إلى اختبار لمسألة التضامن الأوروبي وتوحيد الموقف تجاه روسيا وهو ما لا يبدو مضمونا مع رفض المجر خطة تجميد الأصول بشكل قاطع، وقد اعترفت أيضا رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين بأن المسألة على غاية من التعقيد وأنها تحتاج إلى مزيد من البحث والتوضيح للعديد من النقاط.
وفي كل الأحوال من المرجح أن يناقش الدعم المالي لأوكرانيا، بما في ذلك كيفية استخدام الأصول الروسية المجمدة، مجددا في قمة أخرى لمجلس الاتحاد الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول المقبل من أجل الخروج بقرار نهائي، حيث تضغط كييف للحصول على القرض مع مطلع عام 2026 للاستجابة الى احتياجاتها المالية والعسكرية.
وفي رسالة طمأنة، كانت البلجيكية حاجة لحبيب ، المفوضة الأوروبية للمساواة والاستعداد وإدارة الأزمات، قد صرحت في قمة أكتوبر/تشرين الأول بأن تنفيذ الخطة هو مسالة وقت ليس غير، وأن التململ البلجيكي مرده الافتقاد إلى سابقة مماثلة، مما يستدعي تقديرها، والتأكد من سلامة المسار القانوني لها.
يأتي المقترح الأوروبي لاستغلال الأصول الروسية المجمدة لتنضاف إلى حزمة واسعة من العقوبات الغربية في مسعى للحد من هامش تحرك موسكو وإضعافها ماليا وعسكريا. فإلى أي مدى يمكن أن تحقق هذه الإجراءات أهدافها؟
شملت القرارات الجديدة عقوبات أميركية على أكبر شركتي نفط روسيتين، "روسنفت" و"لوك أويل"، والشركات التابعة لها، وهي خطوة وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ"غير الودية". كما ضمت الحزمة الـ19 من عقوبات الاتحاد الأوروبي، حظرا تاما على الغاز الطبيعي المسال الروسي بدءا من عام 2027، بالإضافة إلى الحظر المطبق على واردات النفط والغاز من "روسنفت" و"غازبروم نفت".
ويتضح من خلال بيانات مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس" للتوقعات الاقتصادية، تراجع عائدات روسيا من إنتاج الهيدروكربونات بسبب انخفاض الأسعار، مما أدى بالنتيجة إلى تراجع أسهمها في الموازنة في سبتمبر/أيلول الماضي الى نحو 6.3 مليارات يورو، بانخفاض قدره 25% مقارنة بالشهر نفسه عام 2024.
مع ذلك يرى الكرملين أن الإجراءات الغربية الجديدة لن يكون لها أي تأثير على الاقتصاد الروسي أو إستراتيجيته الحربية في أوكرانيا، نظرا لتنوع صادراته من المواد الخام مثل الأسمدة والقمح والمعادن النفيسة إلى جانب النفط والغاز. كذلك نجحت روسيا إلى حد كبير في الالتفاف على العقوبات الغربية عبر "الأسطول الشبح" لنقل الصادرات النفطية إلى الصين والهند .
وفي تقدير خبراء "مركز التحليل والإستراتيجيات في أوروبا"، وهو مركز أبحاث مستقل يعمل داخل الاتحاد الأوروبي، فإنه حتى مع توقع تراجع الإيرادات النفطية في حال انخفاض الصادرات إلى الهند والصين على المدى الطويل، فإن هذا لن يكون له تأثير ملموس على المؤسسة العسكرية إلا بعد فترة لا تقل عن العام الواحد على الأقل أو حتى نهاية 2027 على الأرجح.
وأبعد من ذلك تتوقع مؤسسة "أكسفورد إيكونوميكس" صمود الاقتصاد الروسي حتى لو استمرت الحرب لسنوات بفضل أموال صندوقها السيادي والتي قدرت بنسبة 5.9% من إجمالي الناتج المحلي في سبتمبر/أيلول الماضي.
تراوحت الردود الروسية ضد حزمة العقوبات والتدابير الأوروبية، بين الترويج من جهة لتسوية محتملة للصراع في أوكرانيا في غضون عام، وفق ما جاء في تصريحات كيريل دميترييف المبعوث الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارتيه إلى السعودية والولايات المتحدة ، ومن جهة أخرى عبر إظهار القدرة والاستعداد بإطالة أمد الحرب.
ولكن بشكل مباشر توعدت موسكو برد مؤلم إذا مضى الاتحاد الأوروبي قدما في "الاستيلاء" على الأصول المجمدة. ترافق ذلك مع رسالة مشفرة تمثلت في استعراض علني لقوتها النووية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، باختبار صاروخ كروز جديد من طراز بوريفيستنيك وطوربيد نووي عملاق من طراز بوسيدون وتدريبات على إطلاق صواريخ نووية واختبار.
مع ذلك من المستبعد وفق الخبير الروسي ديمتري بريجع، أن تلجأ موسكو إلى أي تحرك عسكري لعلمها المسبق بالتزامات المادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي التي تفرض الرد الجماعي على أي استهداف لدولة عضو في الحلف الذي يضم أغلب دول الاتحاد الأوروبي.
وفي المقابل يرجح ديمتري بريجع في تعليقه للجزيرة نت، أن تسلك روسيا نهجا متدرجا في الرد على الخطوة الأوروبية بدءا من المسار القانوني إلى السياسي ثم الجيوسياسي.
بالإضافة إلى ذلك يعتقد الخبير الروسي، أن أمام روسيا مجالا أيضا للاستمرار في ممارسة هوايتها عبر الأنشطة السيبرانية لمضاعفة الكلفة الاقتصادية لأي خطوة تصعيدية من الجانب الأوروبي، لكن من دون تجاوز الخطوط الحمراء.
لكن هذا يظل مرتهنا بما ستؤول إليه المحادثات الأوروبية الحاسمة في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
المصدر:
الجزيرة