في العقد الأخير، انتقلت الشعبوية من موقع هامشي في الخطاب العام إلى توجه مؤثر في السياسات الاقتصادية والسياسية في عدد من الدول، مدفوعة بتراجع الثقة في المؤسسات الدولية وتزايد مشاعر الإحباط لدى قطاعات من المواطنين.
ولم تعد الشعبوية مجرد موضوع للنقاش الأكاديمي، بل أصبحت ظاهرة حقيقية تعيد صياغة كثير من الأولويات الوطنية، بدءًا من الموازنات العامة، ومرورًا بالضرائب والإنفاق، ووصولًا إلى قضايا التجارة والسيادة الاقتصادية.
ومع صعود هذا التيار، أخذت الشعبوية تلعب دورًا متزايدًا في توجيه النقاشات الاقتصادية، مستندة إلى خطاب بسيط ووعود مباشرة تتفاعل مع شواغل الناس اليومية. فهل يمكن اعتبارها مسارًا دوليًا جديدًا؟ أم أنها تعكس خللًا أعمق يتطلب معالجة متأنية؟
هذا المقال يطرح أسئلة جوهرية:
الشعبوية ليست أيديولوجيا سياسية منظمة، بل هي أسلوب في التفكير والخطاب، يقوم على تصوير المجتمع كما لو أنه منقسم إلى "الشعب الحقيقي" من جهة، و"الطبقات السياسية والاقتصادية" من جهة أخرى، والتي يُنظر إليها على أنها بعيدة عن هموم الناس.
في هذا السياق، يقدّم القادة الشعبويون أنفسهم كممثلين مباشرين لإرادة الشعب، ويَعِدون بإعطائهم صوتًا أقوى، مستخدمين وعودًا كبيرة وخطابًا بسيطًا يلامس مشاعر الإحباط لدى كثير من الناس، ويرفع سقف التوقعات نحو مستقبل أفضل.
وغالبًا ما يظهر هذا الخطاب عندما تتراجع الثقة في النخب السياسية، فيبحث الناس عمّن يخاطبهم بوضوح ويَعِدهم بتغيير سريع.
الشعبوية لا تنتمي إلى تيار سياسي محدد، بل يمكن أن تصدر عن أي اتجاه يرى نفسه أقرب إلى الناس وأقدر على تمثيلهم. وهي غالبًا ما تظهر كردّ فعل على مطالب تم تجاهلها، وتسعى إلى استعادة ما تراه صوتًا مفقودًا للشعب. ولهذا السبب، توصف الشعبوية بأنها "أسلوب سياسي مرن"، أكثر من كونها فكرًا سياسيًا متكاملا.
بدأت الشعبوية في القرن الـ19 كحركات احتجاجية ضد النخب الاقتصادية والطبقات السياسية، خاصة بين المزارعين. ثم تحولت إلى تيارات سياسية تتحدث باسم "الشعب الحقيقي" في مواجهة من يُنظر إليهم كممثلين للنخبة.
وفي القرن الـ20، برزت قيادات شعبوية تمزج بين الخطاب الوطني والسياسات الاجتماعية، مع اعتماد كبير على الزعامة الفردية. وقد تراجعت فترةً بعد الحرب العالمية الثانية ، لكنها عادت في الثمانينيات مع تصاعد العولمة والتقشف الاقتصادي.
لم يكن صعود الشعبوية في السنوات الأخيرة مفاجئًا، بل هو نتيجة لتراكم أزمات طالت حياة الناس بشكل مباشر. فالكثير من الدول واجهت صعوبات اقتصادية، وتورطت في صراعات سياسية وعسكرية، كما تضرّرت بفعل أزمات كبرى مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008.
هذه العوامل أثرت على دخل الناس، وقللت من فرص العمل، خاصة للفئات المتوسطة والفقيرة.
في المقابل، بدا النظام الدولي الذي يُفترض أن يساعد على حل الأزمات وكأنه غائب أو غير قادر على التدخل بفعالية. بل إن كثيرين رأوه جزءًا من المشكلة، لا من الحل.
مع الوقت، تفاقمت مشكلات أخرى مثل الفساد، وتراجع الخدمات، وعدم المساواة. وأمام هذا كله، شعر كثير من المواطنين أن صوتهم غير مسموع. وهنا جاءت الشعبوية كخيار بديل، لأنها تُخاطب الناس بلغتهم، وتَعِدهم بإجابات قريبة على أسئلتهم الملحّة، حتى لو لم تكن هذه الوعود دائمًا واقعية.
يعتمد الخطاب الشعبوي على لغة بسيطة وسهلة الفهم، بعيدة عن التعقيد والمصطلحات النخبوية. وغالبًا ما يُقسّم المجتمع إلى "الناس العاديين" من جهة، و"الجهات الأخرى" التي يُقال إنها لا تفهمهم أو لا تمثّلهم.
القادة الشعبويون يتحدثون بلغة قريبة من الشارع، ويستخدمون شعارات مباشرة وجذابة مثل: "نحن أولًا"، "استعادة الكرامة"، أو "الشعب هو من يقرر".
وهذا الخطاب يركّز على مشاعر الإحباط أو الغضب من الوضع القائم، أو الحنين إلى ماضٍ أفضل. ويُقدَّم الزعيم الشعبوي كشخص مختلف عن السياسيين التقليديين، أقرب إلى الناس ويفهمهم أكثر.
في كثير من الأحيان، يكون هذا الخطاب هجوميًا، ويحمّل مسؤولية الأزمات لأطراف محددة، مثل السياسيين أو الإعلام أو حتى جهات خارجية. كما يرفع سقف التوقعات من خلال وعود سريعة وكبيرة، لكنها تفتقر غالبًا إلى خطة تنفيذ واضحة.
وباختصار، يجذب الخطاب الشعبوي الناس من خلال بساطته وتأثيره العاطفي، لكنه في المقابل قد يُبَسِّط المشكلات أكثر من اللازم، ويُهمّش النقاشات المعمّقة حول الحلول الواقعية.
ترى الشعبوية أن الاقتصاد يجب أن يخدم المواطن العادي أولًا، لا الشركات الكبرى أو الأسواق العالمية. لذلك ترفض السياسات التقليدية وتطرح وعودًا بسيطة مثل خفض الضرائب، رفع الأجور، دعم الفقراء، وخفض الأسعار.
وهذه الإجراءات تكسبها شعبية سريعة، لكنها قد تُرهق ميزانية الدولة وتزيد العجز إن لم تُنفذ بحذر.
وتفضّل حماية المنتجات المحلية بفرض رسوم على الواردات وتشجيع الصناعة الوطنية، ما يُرضي الناس، لكنه قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وتراجع التنافس والاستثمار.
كما تشكك الشعبوية في المؤسسات المالية المستقلة مثل البنوك المركزية وتدعو إلى "استعادة السيطرة الاقتصادية" بقرارات داخلية بعيدًا عن التأثير الخارجي.
وببساطة، تستخدم الشعبوية الاقتصاد لكسب التأييد الشعبي، لكنها كثيرًا ما تُهمِل التوازنات المالية الدقيقة، مما يجعل سياساتها محفوفة بالمخاطر على المدى الطويل.
تختلف الشعبوية في توجهها الاقتصادي حسب الموقف السياسي:
ورغم هذا الاختلاف، تتشابه الشعبويتان في استخدام خطاب عاطفي مبسط، وطرح سياسات سريعة لكسب التأييد الشعبي. هذه السياسات قد تبدو مغرية على المدى القصير، لكنها غالبًا ما تفتقر للاستدامة، وتؤدي إلى ضعف الثقة في مؤسسات الدولة وخلق اضطراب اقتصادي طويل الأمد.
تمثل الشعبوية ظاهرة ذات أثر مزدوج على الاقتصاد والسياسة. فمن جهة، تُسلّط الضوء على أزمات حقيقية يعاني منها المواطنون، مثل الفقر وتراجع الخدمات، وتدفع الأنظمة القائمة إلى مراجعة سياساتها والتجاوب مع الشارع.
لكن من جهة أخرى، تعتمد على وعود سريعة قد تفتقر للدراسة، مثل خفض الضرائب أو الإنفاق المفرط، مما يؤدي إلى عجز مالي وتذبذب في بيئة الاستثمار.
ويؤدي الخطاب الشعبوي، الذي كثيرًا ما يُشكّك في مؤسسات الدولة، إلى إضعاف الثقة بها. لذا فإن استمرار الشعبوية دون توازن اقتصادي ومؤسسي يعرض الاستقرار العام لخطر حقيقي على المدى البعيد.
رغم ما تحمله الشعبوية من أخطار سياسية واقتصادية، فإن لها بعض الآثار الإيجابية في حالات معينة:
وباختصار، يمكن اعتبار الشعبوية، في بعض السياقات، رسالة احتجاج من فئات مهمّشة تطالب بنظام اقتصادي أكثر عدلًا، وقد تفتح الباب لإصلاحات حقيقية إذا تمت مواجهتها بمسؤولية وهدوء سياسي.
لكن رغم هذه الجوانب الإيجابية، فإن الشعبوية لا تخلو من آثار سلبية خطيرة، خاصة على الأمد البعيد، وهو ما سنناقشه في الفقرة التالية.
يمكن اعتبار الشعبوية، في بعض السياقات، رسالة احتجاج من فئات مهمّشة تطالب بنظام اقتصادي أكثر عدلًا، وقد تفتح الباب لإصلاحات حقيقية إذا تمت مواجهتها بمسؤولية وهدوء سياسي.
تمتد آثار الشعبوية إلى العلاقات الخارجية، حيث تُفضّل الحكومات الشعبوية التركيز على السيادة الوطنية بدلًا من التعاون الدولي، مما يُغيّر من موقع الدولة في العالم ويُضعف حضورها في النظام الدولي .
وترى هذه الأنظمة أن العولمة كانت سببًا رئيسيًا في التراجع الاقتصادي، وتآكل الصناعة، وفقدان الوظائف. لذلك، تتجه إلى الانسحاب التدريجي من منظومة العولمة، وتُعيد ترتيب أولوياتها لصالح الداخل، على حساب التعاون الدولي.
هذا الانغلاق لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى السياسة الخارجية، ويؤثر على علاقات الدولة وتوازناتها الإستراتيجية من جهة:
تشكك الشعبوية في المؤسسات المالية المستقلة مثل البنوك المركزية وتدعو إلى "استعادة السيطرة الاقتصادية" بقرارات داخلية بعيدًا عن التأثير الخارجي.
رغم آثارها السلبية الاقتصادية، وتحدياتها على المدى الطويل، فإن الشعبوية هي نتيجة طبيعية لمسار طويل من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي راكمت الفجوة بين المواطنين ومراكز القرار.
وعندما تُهمل احتياجات الأفراد وتتراجع الثقة بالمؤسسات، يميل كثيرون إلى تبنّي خطابات بسيطة ووعود مباشرة، حتى إن بدت غير واقعية أو محفوفة بالمخاطر.
وقد ساعدت الأزمات المتلاحقة، من أزمات مالية إلى توترات سياسية ونزاعات إقليمية، في تسريع صعود التيارات الشعبوية إلى مواقع التأثير. لا لأنها قدّمت بالضرورة حلولًا أفضل، بل لأنها تلامس توق المواطن العادي إلى من يفهمه ويمثّله.
فالمواطن العادي لا يشغله كثيرًا تعقيد السياسات الاقتصادية أو تفاصيل النقاشات، بقدر ما يعنيه أمر واحد: كيف سيوفر قوت يومه، ويؤمّن مستقبل أسرته، ويعيش بكرامة في ظل ظروف مستقرة.
إن وصول بعض الحركات الشعبوية إلى صنع القرار اليوم يعكس بحث الشعوب عن بديل يُنصت لصوتها.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تمثّل الشعبوية بديلا طويل الأمد، أم أنها رد فعل ظرفي لأزمة أعمق؟
والجواب سيتوقف على قدرة النظام الدولي على قراءة هذا التحول بدقة، والتفاعل معه بإصلاحات واقعية تُعيد التوازن بين تطلعات الشعوب ومتطلبات الاستقرار.