في مهرجان البندقية السينمائي المنعقد حاليا في المدينة الإيطالية، قدم المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون نسخة جديدة بالأبيض والأسود من رواية "الغريب" لألبير كامو.
العمل يتناول شخصية مورسو الذي يقتل شخصا آخر اسمه "العربي"، ويحكم على مورسو بالإعدام، ليس لأنه قتل "العربي"، ولكن لأنه خالف معتقدات ذلك العصر ولم يبك ولم يحزن ولم يتأثر بموت أمه، وأثار فور عرضه سؤالا قديما متجددا: هل تحويل الروايات إلى أفلام خيانة للنص الأدبي أم إعادة ترجمة له بلغة أخرى؟
أوزون نفسه قال بصراحة إن الاقتباس ينطوي دائما على شيء من "الخيانة"، لكنه دافع عن مشروعه باعتباره محاولة لفتح نقاش جديد حول نص كلاسيكي فرنسي ما زالت موضوعاته من عبثية واغتراب وظلم استعماري حية حتى اليوم.
ليست هذه المرة الأولى التي تحول فيها "الغريب" إلى فيلم، فقد سبق أن قدم لوتشينو فيسكونتي نسخة عام 1967؛ لكن القضية أوسع بكثير، فالسينما تكاد لا تترك عملا أدبيا كبيرا إلا حولته إلى صور، منذ نهاية القرن التاسع عشر عندما حول مشهد من رواية فرنسية إلى فيلم صامت عام 1896.
لكن السينما تعيد إنتاج الأدب بلغتها الخاصة، شكسبير مثلا لا يكاد يذكر في السينما إلا ومعه عشرات النسخ والمعالجات التي تتراوح بين الكلاسيكي والتجريبي، الأمر نفسه يتكرر اليوم مع روايات مثل "هاري بوتر" أو مع قصص الأبطال الخارقين المستقاة من عالم الكوميكس.
والمقارنة بين الرواية والفيلم كثيرا ما تختزل إلى سؤال "الخيانة" و"الأمانة"، خاصة أن الأدب في نظر ألبير كامو كان موقفا من الوجود، فلا مفر لمن يعيد كتابة "الغريب" بالصورة من أن يعبّر عن هذا العمق، وأن يظل وفيا له دون تزييف أو تحريف أو خيانة.
وكما طرح برنامج "عن السينما" (الجزيرة، 2019/12/20)، فإن الرواية تحتفي بالوصف الداخلي والتشبيهات الدقيقة، في حين أن للسينما أدواتها المرئية والموسيقية الخاصة، وذهب الروائي السوداني أمير تاج السر إلى أنه من غير المنصف قياس السينما على النص الأدبي، فالمخرج يقدم رؤيته الخاصة مستخدما لغة بصرية مختلفة، لا مجرد اختزال للصفحات.
ولم يكن الاقتباس الأدبي حكرا على الغرب، ففي العالم العربي تحولت روايات نجيب محفوظ إلى أفلام مصرية وعالمية، أشهرها "زقاق المدق" الذي نقل إلى الشاشة المكسيكية باسم "Midaq Alley" ونال شهرة وجوائز.
كما اقتبست السينما العالمية قصصا عربية كلاسيكية مثل "مغامرات سندباد" و"علاء الدين"، حيث أعادت هوليود تقديمها عبر كولومبيا وديزني مرات عدة بأشكال كرتونية وحية، وكشفت هذه الأمثلة أن الاقتباس ليس مجرد "نقل"، وإنما يصبح أحيانا إعادة خلق ثقافي، حيث تنتقل الحكاية من سياقها المحلي إلى أفق كوني أوسع.
لكن الاقتباس يحمل معه كذلك عدة مخاطر، فحين تتحوّل رواية إلى فيلم، يتحول النص من نص مفتوح على مخيلة القارئ إلى صورة جماعية جاهزة.
وقد يربح النص ملايين القراء الجدد عبر الشاشة لكنه قد يخسر بعضا من حريته الأصلية، وهنا بيت القصيد: هل السينما تؤرخ للأدب وتمنحه حياة ثانية، أم تسطح النص وتفرض عليه رؤية واحدة؟ في كل الأحوال، يبدو أن هذه العلاقة الملتبسة بين الأدب والسينما ستبقى مفتوحة على مزيد من المحاولات ومزيد من الجدل.